الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ }

هذا القول كسابقه يحتاج إلى قائل ومقول له، ويصح أنْ يكون قائله هو القائل الأول الذي قالهَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ.. } [سبأ: 7] ويصح أن يكون الآخر الذى سمع القائل الأول فردَّ عليه: { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ.. } [سبأ: 8]. معنى { أَفْتَرَىٰ.. } [سبأ: 8] من الافتراء، وهو تعمُّد الكذب { أَم بِهِ جِنَّةٌ.. } [سبأ: 8] أي: جنون يعني: كلامه هراء، لا وزن له، ولا يُقال له صدق ولا كذب. لكن لماذا اتهموا رسول الله بأن به جِنَّة بعد أن اتهموه بالكذب والافتراء؟ قالوا: لأن هذا اتهام كذب، والكاذب دائماً يخاف أنْ يُفتضح أمره، وينكشف كذبه لذلك يحاول أنْ يجعل لنفسه مخرجاً حين يثبت كذبه، فقالوا: { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ.. } [سبأ: 8] فإذا ما ثبت صدق رسول الله، وأنه ليس كاذباً ولا مفترياً وجد المتهم له مخرجاً فقال: والله أنا لا أدري أهو مُفْتر أم به جِنَّة، وما دام ثبتَ صِدْقه، فهو به جِنَّة. وعجيب أن يصف كفار مكة رسول الله بالكذب والافتراء على الله، وهو واحد منهم، ما عرفوا عنه إلا أنه الصادق الأمين، وما جرَّبوا عليه كذباً قط، وما رأوْه يوماً خطيباً ولا شاعراً، وهم أهل الفصاحة وفرسان الكلمة، لا يَخْفى عليهم تذوُّق اللغة وفَهْم الأساليب العربية، فكان عليهم أنْ يعقلوا أولاً قبل أن يُوجِّهوا لرسول الله هذا الاتهام. ثم، هل تأتي البلاغة؟ وهل يأتي النبوغ بعد سنِّ الأربعين؟ معلوم أن النبوغ يأتي فى أواخر العقد الثانى أو أوائل العقد الثالث من العمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِثَ فيهم أربعين سنة قبل أن يُبلِّغهم عن الله كلمة واحدة. لذلك يخاطبهم القرآن، ويجادلهم بالحجة، فيقول على لسان سيدنا رسول الله:فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16] يعنى: تدبَّروا الأمر واعقلوه، فأنتم أهل البلاغة واللسان الفصيح، ومنكم الخطباء والشعراء ملأوا الدنيا كلاماً، فهل رأيتم مني شيئاً من هذا؟ إذن: الذي قال: { أَم بِهِ جِنَّةٌ.. } [سبأ: 8] احتاط لنفسه، فحين يظهر صِدْق رسول الله يقول هو: أنا قُلْت: إنه إما كاذب، وإما مجنون. ثم يردُّ الحق على هؤلاء: { بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ } [سبأ: 8] كلمة بَلْ تفيد الإضراب عما قبلها ونفيه ورفضه، ثم إثبات ما بعدها، فهي تنفي أن يكون رسول الله مفترياً، وتنفي أن يكون مجنوناً لأن رسول الله ما جرَّبتُمْ عليه كذباً من قبل، وما رأيتم عليه علامة من علامات الجنون لأن المجنون لا يُحمد على فعل، ولا يُذم على فعل، ولا يُوصَف بصدق ولا كذب، وقد سبق أن مدحتم رسول الله فقلتم عنه " الصادق الأمين ".

السابقالتالي
2