الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ }

نقول: حُلْتُ بين الخصمين يعني: فصلْتُ بينهما، وجعلتُ بينهما حائلاً ومانعاً من الاشتباك حتى لا يبلغ كل منهم أشُدَّه في المعركة، أو ينال مراده من خَصْمه، فالحق - سبحانه وتعالى - جعل حائلاً ومانعاً بين هؤلاء وبين ما يشتهون. والاشتهاء طلب شهوة النفس من غير ارتباط بمنهج، لكن ما الذي كان يشتهيه الكفار؟ كانوا يشتهون أنْ يطمسوا دعوة الحق، فلم يُمكِّنهم الله من طمسها، كما قال سبحانه:يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [التوبة: 32]. وقال سبحانه:هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [الصف: 9]. وهم يشتهون انطماس الدعوة لتبقى لهم سيادتهم التي نهبوها على حساب الضعفاء، ولتظل لهم المكانة والتصرُّف، كذلك يَشْتهون انطماس الدعوة حتى لا تقف مناهج الله عقبة أمام شهوات نفوسهم. ومعلوم أن الإنسان تحاربه نفسه قبل أن يحاربه الشطيان، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان: " إذا جاء رمضان فُتِحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين " ومع ذلك تحدث في رمضان ذنوب وجرائم. إذن: هذه الذنوب وهذه الجرائم ليست عن طريق الشيطان، إنما من طريق النفس، كأن الله تعالى يريد أنْ يفضح العاصين الذين يتهمون الشيطان، ويُلْقون عليه تبعة كل ذنوبهم. إذن: ليس الشيطان وحده هو وسيلة الضلال والغواية، إنما هناك النفس الأمَّارة بالسوء. وسبق أنْ أوضحنا كيفية التفريق بين المعصية من طريق الشيطان والمعصية من طريق النفس، وقلنا: إذا وقفْتَ أمام معصية بعينها لا تتحول عنها مهما عَزَّتْ عليك أسبابها، فاعلم أنها من شهوات النفس لأن النفس تريد شيئاً بعينه، أما الشيطان فإنْ عزَّت عليك معصية أخذك إلى أخرى، المهم أن تعصي الله على أيِّ وجه، وبأية طريقة. فقوله تعالى: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ: 54] دلَّ على أن المسألة بالنسبة لهم كانت شهوةَ نفس، لا مدخلَ للشيطان فيها، لماذا؟ لأنهم كفروا بالله وفرغ الشيطان منهم، وإلا ماذا يريد منهم بعد ذلك، فلم تَبْقَ إلا شهوات النفس فاشتهوا أنْ يطمسوا الدعوة، وأنْ يذلوا مَنْ آمن ويجعلوه عبرةً لمن يفكر في الإيمان، لكن حال الله بينهم وبين ما أحبوا، وسارت الدعوة على خلاف ما اشتهوا، فمن ذُلَّ وضُرب وأُهين من المؤمنين ثبت على إيمانه، ومَنْ كان يفكر في الإيمان لم يَرْهَبَهُم، ولم يخف مما فعلوه بإخوانه المؤمنين. فإنْ قلت: كيف أسلم اللهُ المؤمنين الأوائل لأنْ يعذبهم الكفار، وأنْ يُهينوهم ويُخرجوهم من أرضهم؟ نقول: كان هذا لحكمة عالية أرادها الحق سبحانه، وهي أنْ يُمحِّص إيمان المؤمنين، بحيث لا يثبت على إيمانه إلا قوى العزيمة الذي يصبر على تحمل الشدائد، فهؤلاء هم الذين سيحملون منهج السماء ودعوة الحق إلى العالم أجمع، فلا بد أن يكونوا صفوة تختار دين الله وتضحي في سبيله بكل غالٍ ونفيس.

السابقالتالي
2 3 4 5