الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ }

السعي هو المشي الحثيث وقطع المسافة، فما معنى { سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا.. } [سبأ: 5] ألم تسمع قولهم: سعى فلان بفلان عند السلطان مثلاً؟ والمراد: أنه نَقَل إلى السلطان ما يُغضبه وما يُحزنه من هذا الشخص، وهذه التي نسميها في العامية وبين الموظفين ضربه زُنْبَة هي هنا بنفس هذا المعنى. { سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا.. } [سبأ: 5] يعني: ضربوا فيها زُنَب وألَّبوا الناس عليها ليزهد فيها مَنْ كان مُقْبلاً عليها، ويخرج منها مَنْ كان فيها ويتملَّص منها، سعَوْا في آيات الله وهي القرآن ليبطلوه وليصرفوا الناس عنه، لماذا؟ لأنهم واثقون من أثر القرآن في القلوب، فلو أعطاه الناسُ آذانهم لابد وأنْ يؤثر فيهم ويجذبهم إلى ساحة الإيمان، فتنفعل به قلوبهم. وتلهج به ألسنتهم. وهؤلاء هم الذين قالوا:لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت: 26] ولو كان القرآن كلاماً عادياً غير ذي أثر لَمَا نَهوْا عن سماعه، ولما شوَّشوا عليه، وخافوا من سماعه. ومعنى { مُعَاجِزِينَ.. } [سبأ: 5] مفردها مُعَاجز: اسم فاعل من عَاجَزَ مثل: قَاتَل ومقاتل، وعاجز مثل نافس، والمنافسة الأصل فيها التسابق في التنفس، وقد رُوى أن سيدنا عمر وسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مَرَّا ببحيرة، فقال عمر: هيا بنا نتنافس يعني: نغطس تحت الماء، لنرى أيّنا أطول نَفَساً من الآخر، ومعروف أن طول فترة الغطس تدل على قوة التنفس وسلامة الرئة، وأنها تحتوى مخزوناً أكبر من الهواء، ثم أُطلِقت المنافسة على كل مسابقة. ومثل نافس: عَاجَزَ يعنى: حاول كُلٌّ من الطرفين إثبات عجز الآخر. تقول: عاجزني يعني: جعلني أفعل فعلاً أعجز عنه، فكأنهم يريدون بسعيهم في آيات الله أنْ يُثبِتوا عجزها، وأن يُعجِزوا الدعوة أنْ تبلغ مداها، ويُعجِزوا رسولَ الله أنْ يتمم رسالته، ويُعْجزوا منهج الله أن يصل إلى خلق الله. لكن يُعاجزون مَنْ؟ يُعاجزون الله؟ كيف وهو سبحانه الذي أرسل الرسل، وتكفَّل بنصرتهم وعدم التخلِّي عنهم، وما كانت الحروب والقتال بين الرسل والمكذبين إلا سبباً يأتي من خلاله نصر الله، كما قال سبحانه:قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [التوبة: 14]. وقال سبحانه:وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-172]. إذن: مَنْ سيُعاجزون؟ ربما يُقبل أنْ يُعاجزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يُعاجزوا المؤمنين، أما الحق سبحانه فهو الغالب القادر، وهل يستطيع أحد أنْ يُعجز الله، ويتغلب عليه سبحانه، فيجعله عاجزاً، وهو سبحانه القادر الغالب؟ فمعنى { سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا.. } [سبأ: 5] أي: وضعوا المكايد والعراقيل في طريقها: ليفسدوا أمر الدعوة، وحتى يردُّوها على رسول الله في فمه الذي قالها { مُعَاجِزِينَ.

السابقالتالي
2