الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

معنى { أَرْسَلْنَاكَ.. } [سبأ: 28] أي: جعلناك رسولاً { إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ.. } [سبأ: 28] كلمة كافة تبين منزلة الرسول الخاتم، فقبل بعثة سيدنا رسول الله كان الرسول يُبعث لقوم مخصوصين، كما قال سبحانه وتعالى:وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ.. } [آل عمران: 49]. ذلك، لأن البشر لما تكاثروا كما قال سبحانه:وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً.. } [النساء: 1] تفرَّقوا في أنحاء الأرض هنا وهناك، والعالم لا يزال في طفولة فطرته، ليس فيه ارتقاءات للقاء بين هذه الجماعات، فكانت جماعات منعزلة، لا اتصال بينها، ولكل بيئة منها داءاتها: فهؤلاء يُطفِّفون الكيل والميزان، وهؤلاء يعبدون الأصنام... إلخ فيأتي الرسول إلى قوم مخصوصين ليعالج داءهم لا علاقة له بغيرهم. أما سيدنا رسول الله، فكان هو الرسول الخاتم المبعوث للناس كافّة لأن الله تعالى عَلِم أزلاً أنه سيأتي على التقاء مع الدنيا كلها، وعلى اتصال بين الجماعات التي كانت مُتفرِّقة، وها نحن الآن نعيش عالم القرية الواحدة، وما يحدث في أقصى بلاد الدنيا نسمعه ونراه في وقته، وما دام العالم التقت مجتمعاته وقاراته، فالداءات واحدة لذلك جاء رسول واحد ليعالج كل الداءات في كل المجتمعات، هذا معنى: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ.. } [سبأ: 28]. ومعنى أنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل أنه مشهود له، وليس شاهداً لغيره، فقد أخذ الله تعالى العهد على الرسل، أنه إذا جاء محمد يشهدون له فشهدوا له جميعاً، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يشهد لأحد لأنه لم يأْتِ بعده رسول. قال العلماء في كلمة { كَآفَّةً.. } [سبأ: 28] يعني: للناس جميعاً، ففي موضع آخر يقول تعالى:قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً.. } [الأعراف: 158]. يعني: لم تَعُدْ هناك خصوصية، لا زمانية ولا مكانية. وحين نتأمل كلمة { كَآفَّةً.. } [سبأ: 28] نجد لها مناسبة في واقع لغتنا، استقر على ألسنة العامة: نشاهد الخياط مثلاً حين يخيط ثوباً يُعمِل المقصَّ في القماش، فيقطعه إلى لُحمة وسُدة، لكن تخرج خيوط الثوب من خلال أطرافه كما نقول القماش بينسِّل فيجمع الخياط هذه الأطراف بعضها إلى بعض، بحيث تكون أطراف القماش إلى الداخل، وهذه العملية نسميها كفكفة القماش، أو نسميها الآن السَّرفلة. ومن ذلك كلمة كَافَّة يعني: جَمْع شتات الناس في كل زمان ومكان، بحيث لا يخرج منهم جنس ولا جماعة، ولا يشذّ عن منهجه أحد. وعندنا في الفلاحين نبات ينمو على حوافِّ القنوات اسمه النجيل، وهو غير الحشيش المعروف، والنجيل لا يرتفع عن سطح الأرض، وتتشابك عيدانه وجذوره بحيث يمنع هذه الحوافّ أن تنهار، أو يسقط منها الردم فيسدّ القناة، فكأن النجيل أدى مهمة هي كفّ الردم ومنعه أنْ ينهار يعني: كفّ جنساً أن يشرد عن مهمته.

السابقالتالي
2