الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ }

لما أغوى إبليس بني آدم هل لهم عذر في هذا الإغواء؟ وهل الذنب هنا ذنب إبليس؟ الحق سبحانه يخبر عنه وعنهم هذا الخبر في سياق قصة سبأ: { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ.. } [سبأ: 21]، وقد التقط إبليس هذه العبارة وجعلها حُجَّة له يوم القيامة، فإذا قال له البشر يوم القيامة: أنت سبب ضلالنا وغوايتنا قال:وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ.. } [إبراهيم: 22]. يعني: لا تلوموني ولا تظلموني، فقد كنتم على تشويره مني، وليس لي عليكم من سلطان: لا سلطان قوة أقهركم بها وأجبركم على طاعتي، ولا سلطان حجة أقنعكم به، والفرق بين سلطان القهر وسلطان الحجة أنك تفعل مع الأول وأنت غير راض فأنت مُكْره، أمّا مع سلطان الحجة والمنطق فإنك تفعل ما يُطلَب منك عن رضا واقتناع. وربنا عز وجل حذرنا من إبليس ووسوسته ونزغه، وعلمنا أننا لن نقهره إلا بالله خصوصاً بهذه الروشتة التي قال الله فيها:وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ.. } [فصلت: 36]. مجرد أنْ تُذكِّره بالله يخنس ويهرب ويتراجع، فهو يقدر عليك وحدك، فإنْ لجأتَ إلى ربك خاف وفَرَّ لأنه لا قدرةَ له، ولا كيد مع ذكر الله، لذلك قال بعض العارفين: قل هذه الكلمة بقوة وكأنك تراه وتصرعه. فماذا نفعل إنْ جاء لأحدنا وهو يقرأ القرآن؟ قالوا: يقطع قراءته، ويقول بصوت أعلى وبأسلوب مغاير لقراءته: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقد حاولنا أن نُقرِّب هذا المعنى لأذهان الناشئة فقلنا: لو أن أحد الأغنياء مثلاً يجلس في الشرفة ليلاً، فرأى لصاً يحاول دخول بيته، فقام من مكانه، وقال إحم ماذا يصنع اللص؟ يهرب، فإنْ قال في نفسه لعلها مصادفة، ثم عاد في الليلة التي بعدها، فتنبَّه له صاحب البيت، وقال إحم عندها يفرّ بلا عودة، فصاحب البيت متنبه غير غافل. كذلك، قَوْل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يُفزع الشيطان ويطرده، فإنْ عاد إليك مرة ومرة فقُلْ كلما شعرت بوسوسته ونزغاته: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، عندها سيعلم أنك فقسته، وأنه لا مدخل له إليك. وقد عرف الشيطان حين جادل ربه من أين يدخل على ابن آدم، فقال:لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] فهو كما ذكرنا، لا يقعد في خمارة مثلاً، إنما يقعد في المسجد، فهو يعلم أنك في عبادة، وكُل مُناه أنْ يُفسِد عليك عبادتك، أَلاَ تراه يُذكّرك في الصلاة ما نسيتَ من مهمات الحياة، وعلى المؤمن أنْ يقدِّر موقفه بين يدي الله، وألاّ ينشغل بأي شيء وهو في حضرة ربه. فالصلاة هي الصراط المستقيم الذي سيقعد لك الشيطانُ عليه لذلك علَّمنا فقهاؤنا - رحمهم الله ورضي الله عنهم - أنْ نغيظ الشيطان، فإذا وسوس لك في الصلاة بحيث لا تدري، أصليتَ ركعتين أم ثلاثاً، فاعتبرها ركعتين وابْنِ على الأقل، كذلك في الوضوء وأمثاله من العبادات، لتغيظه وتُيئسه منك.

السابقالتالي
2