الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } * { ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ }

قوله تعالى: { فَأَعْرَضُواْ.. } [سبأ: 16] أي: عن المأمور به، وهوكُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ.. } [سبأ: 15] فلم يأكلوا من رزق الله، إنما أكلوا من سعيهم ومهارتهم - على حدِّ زعمهم - وهذه أول الخيبة، ثم لم يشكروا الله على هذه النعم لأن النعم أترفتهم فنسوا شكرها. وفَرْق بين ترف وأترف، نقول: ترف فلان أن تنعَّم. لكن أترف فلان، أي: غرَّته النعمة لذلك قال تعالى:وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا.. } [الإسراء: 16]. فلا بأس أنْ تتنعم، لكن المصيبة أن تُطغيك النعمة، وتغرّك، وأول طغيان بالنعمة أن تنسبها إلى نفسك فتقول: بمجهودي وشطارتي كالذي قال:إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ.. } [القصص: 78] ثم أنْ تنسى المنعِم، فلا تشكره على النعمة. وفي موضع آخر لخَّص لنا الحق سبحانه هذه القضية في قوله سبحانهوَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [النحل: 112]. وقال في قوم سيدنا نوح عليه السلام:وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } [الجن: 16]. إذن: صيانة النعمة بشكرها والاعتراف بها كلها منسوبة إلى المنعِم سبحانه، وحتى نحن على مستوى البشر نقول: فلان هذا حافظ للجميل، فنزيده ولا نبخل عليه بجميل آخر وآخر، فما بالك بالحق سبحانه وتعالى؟! وكلمة الإعراض تُعطِي شيئاً فوق الإهمال وفوق النسيان لأن الإعراض أنْ تنصرف عن مُحدِّثك وتعطيه جانبك كما تقول لمَنْ لا يعجبك حديثه اعطني عرض كتافك. إذن: الإعراض تَرْك متعمَّد بلا مبالاة، أما السهو أو النسيان أو الخطأ أو عند النوم، فهذه كلها أمور مُعْفىً عنها، قد رفعها الله عنَّا رحمة بنا، فربُّك عز وجل لا يعاملك إلا على اليقظة والانتباه وتعمد الفعل. واقرأ إنْ شئتَ قول ربك:وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [طه: 124]. لماذا؟ لأن الإعراض فيه شبهة عدم اعتناء بالآمر، فالنكبة فيه أشدُّ على خلاف أنْ تكون معتنياً بالآمر، وبعد ذلك تتهم نفسك لأيِّ سبب آخر. ويقول تعالى أيضاً في الإعراض:وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ.. } [فصلت: 51] وسوف يأتي الجزاء على قدر الإعراض، كما بيَّن الحق سبحانه في قوله:وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ.. } [التوبة: 34-35]. كما نقول: أنت ربيتَ مَنْ سيقتلك فيما بعد، كذلك هؤلاء كنزوا الأموال ليتمتعوا بها قليلاً في دنيا فانية، ثم يلاقون تبعة ذلك يوم القيامة، نار تكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم، حتى يتمنى الواحد منهم - والعياذ بالله - لو أنه قلَّل منها حتى يُقلل من مواضع الكيِّ.

السابقالتالي
2 3