الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ }

المحاريب: جمع محراب، ويُطلق على القصر الفخم الواسع، وعلى المكان الذي يتخذه الناس للعبادة، ومنه قوله تعالى:كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً.. } [آل عمران: 37]. والتماثيل: جمع تمثال، وهو ما يُنحَت من الحجر مثلاً، أو يُصوَّر على هيئة إنسان، أو حيوان، أو طائر.. إلخ. وفي مسألة التماثيل بالذات يطرأ سؤال: أيمتنُّ الله على نبيه سليمان بأن الجن تصنع له التماثيل مع ما عُرِفَ عنها من أنها رمز للإشراك بالله، وقد حطمها الأنبياء ونهَوْا عن عبادتها من دون الله؟ قالوا: حُطِّمت التماثيل لَمَّا اتخذها الناس للعبادة والألوهية، وكانت من قبل لا تتخذ للعبادة، بل للخدمة، وللدلالة على الإهانة والإذلال، ألم نَرَ في الآثار القديمة كرسياً أو مائدة تقوم على هيئة مجموعة من الأسود مثلاً؟ وحتى الآن توجد قصور تقوم شُرفاتها على هيئة رجل مُنْحَنٍ يحمل الشرفة بدلاً من الخرسانة التي نصنعها نحن الآن، إذن: كانت التماثيل تدل على الإذلال والإهانة، فلما عُبِدت أُمِرنا بتحطيمها وتحريمها. وقوله: { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ.. } [سبأ: 13] الجفان: جمع جَفْنة، وهي القصعة المعروفة { كَٱلْجَوَابِ.. } [سبأ: 13] كالحوض الواسع الكبير، وهذا كناية عن كرمه وكثرة إطعامه الطعامَ { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ.. } [سبأ: 13] أي: قدور ثابتة لِكِبرها، فهى لا تُرفع ولا تُحرَّك من مكان لآخر لعِظَمها. لذلك حُدِّثنا في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن مطعم قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جفنة قصعة طعام كنت أستظل بها في اليوم القائظ في مكة، وهذا دليل على سِعَتها وكِبَرها وكثرة من يُطْعمون منها. ولما بنى الملك عبد العزيز آل سعود الرياض جعل بها قُدوراً للطعام، وكان القِدْر يسع الجمل يقف بداخله، وأذكر أنني أول ما ذهبت إلى مكة دخلت المبرَّة، فوجدت بها قدوراً واسعة، فوقفتُ في إحداها فوسعتني. ومعنى { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً.. } [سبأ: 13] أى: شُكْراً لله على نعمه، لا لتقوتوا أنفسكم فحسب، إذن: فربُّك يُعلِّمك: لا تعمل على قدر حاجتك فحسب لأن في مجتمعك مَنْ لا يقدر على العمل، فاعمل أنت أيها القادر على قَدْر طاقتك، وخُذْ لنفسك ما يكفيك، وتصدَّق بما فاض عنك لغير القادرين. ومعلوم أن شكر النعمة يقيدها أي يديمها بل ويزيدها، كما قال سبحانه:لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ.. } [إبراهيم: 7]. أو: المعنى { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً.. } [سبأ: 13] أن أقدركم على العمل حتى تعولوا مَنْ لا يقدر على العمل { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] يعني: قليل من الناس مَنْ يقابل نعمة الله بالشكر. لذلك رُوِي أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - سمع في الطريق رجلاً يقول: اللهم اجعلني من القليل، فتعجَّب عمر من دعوة الرجل، ولم يفهم معناها، فسأله عنها، فقال الرجل، سمعت الله يقول: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] وأنا أرجو أن أكون منهم، فقال عمر متعجباً: كل الناس أعلم منك يا عمر؟! فمن الناس مَنْ عنده مَلَكة التقاط المعاني وتوظيفها، من ذلك ما يُحكَى من أن رجلاً كان يسير في سوق البطيخ في بغداد وهو صائم في يوم حار، فمرَّ برجل يبيع شراباً مثل العرقسوس مثلاً، وينادي: غفر الله لمن شرب مني، فمال إليه وقال له: اسْقِني، فقال له صاحبه: تذكر أنك صائم، فقال: والله لقد رجوتُ دعوتَه.

السابقالتالي
2