الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }

أراد الحق سبحانه أنْ يُدلِّل على قوله لرسوله في الآيات السابقة:وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } [الأحزاب: 3] فجاء بحادثة جمعتْ كل فلول خصومه، فقد سبق أن انتصر عليهم متفرقين، فانتصر أولاً على كفار مكة في بدر، وانتصر على اليهود في بني النضير وبني قينقاع، وهذه المرة اجتمعوا جميعاً لحربه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لن يؤثر جمعهم في الصدِّ عن دعوتك، وسوف تُنصَر عليهم بجنود من عند الله. إذن: فحيثية وتوكل على الله هي قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ.. } [الأحزاب: 9] النعمة: الشيء الذي يخالط الإنسان بسعادة وبِشْر وطلب استدامته، وهذه الصفات لا تتوافر إلا في الإيمان لأن استدامة النعمة فيه تعدَّتْ زمن الدنيا إلى زمن آخر دائم وباقٍ في الآخرة، وإنْ كانت نعمة الدنيا على قَدْر أسبابك وإمكاناتك، فنعمة الآخرة على قَدْر المنعمِ سبحانه، فهي إذن: نعمة النعم. والله تعالى يخاطب هنا المؤمنين، ومعنى الإيمان هو اليقين بوجود إله واحد له كل صفات الجلال والكمال، والله سبحانه يكفي العقل أنْ يهتدي إلى القوة الخالقة الواحدة التي لا تعاند، لكن ليس من عمل العقل أنْ يعرف مثلاً اسم هذا الإله، ولا أن يعرف مراده، فكان ولا بُدَّ من البلاغ عن الله. وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بمَنْ يطرق علينا الباب، فنتفق جميعاً بالعقل على أن طارقاً بالباب، هذا هو عمل العقل، لكن أمن عمل العقل أن نعرف مَنْ هو؟ أو نعرف مقصده من المجيء؟ وهذا ما نسميه التصور. فآفة العقل البشري أنه لم يقنع بالتعقل للقوة القاهرة الفاعلة، فكان يكفيه أن يتعقل أن وراء هذا الكون قوةً، هذه القوة لها صفات الكمال التي بها أوجدتْ هذا الكون، فإنْ أردنا معرفة ما هي هذه القوة فلابُدَّ أنْ نترك هذا الطارق ليخبرنا عن نفسه، ويفصح عن هدفه وسبب مجيئه، ولا يتم ذلك إلا من خلال رسول يأتي من عند الله يخبرنا عن هذه القوة، عن الله، عن أسمائه وصفاته ومنهجه الذي ارتضاه لخَلْقه، وما أعدَّه الله لمَنْ أطاعه من النعيم، وما أعدَّه لمَنْ عصاه من العذاب. فإنْ كذَّبنا هذا الرسول، وطلبنا دليلاً على صِدْقه في البلاغ أخرج لنا من المعجزات ما يؤيده وما يحملنا على تصديقه لأنه أتى بلونٍ مما ننبغ فيه نحن، وفن من فنوننا، ومع ذلك عجزنا عن الإتيان بمثله. إذن: فالتعقُّل أول مراحل الإيمان: لذلك فإن أبسط ردٍّ على مَنْ يعبدون غير الله أن نقول لهم: بماذا أمرتكم آلهتكم؟ وعمَّ نهتْكم؟ وماذا أعدَّتْ لمن أطاعها؟ وماذا أعدَّت لمنْ عصاها؟ ما المنهج الذي تستعبدكم به؟ فكان من منطق العقل ساعةَ يأتينا رسول من عند الله أنْ نستشرف له، ونُقبل عليه، ونسأله عن اللغز الذي لا نعرفه من أمور الحياة والكون، كان علينا أن نستمع له، وأن ننصاع لأوامره لأنه ما جاء إلا ليُخرجنا من مأزق فكري، ومن مأزق عقلي لا يستطيع أحد مِنَّا أنْ يُحلِّله، كان على القوم أن يتلهفوا على هذا الرسول، لا أن يعادوه ويعاندوه، لما لهم من سلطة زمنية ظنوها باقية.

السابقالتالي
2 3 4