الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }

العَرْض: إدارة معروض على معروض عليه، كما نرى مثلاً في العرض العسكري، حيث تمر نماذج من الجيوش والأسلحة أمام القائد، ومنه قوله تعالى في قصة سيدنا سليمان عليه السلام:إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ص: 31]. ومنه قولك: عرضتُ على فلان الأمر يعني: أطلعتُه عليه، ليرى فيه رأيه يقبل أو لا يقبل، فالعرض تخيير لا إلزامَ فيهِ. فالحق سبحانه يقول: عرضت الأمانة على خَلْقي كلّ خَلْقي، ومنه الإنسان والحيوان والجماد والنبات لأرى مَنْ منهم سيقبل تحمُّلها، ومَنْ سيرفض، إذن: معنى العَرْض أن هناك مَنْ سيقبل، وهناك مَنْ سيرفض. لذلك قًلْنا: من الخطأ: أن نقول: إن الأرض والسماء والجبال.. إلخ مُسَيَّرة مقهورة، بل يجب أن نُعدِّل العبارة فنقول هي مقهورة باختيارها لأن الله حين عرض عليهن الأمانة أبينْ أن يحملنها وأشفقْنَ منها، وقالت: نخرج من باب الجمال، فاختارتْ ألاَّ تكون مختارة. ومعنى الأمانة في عُرْفنا هي المال، أو الأشياء النفيسة التى تخشى عليها الضياع، فتُودعها عند مَنْ تلتمس فيه أنه يحافظ عليها لحين حاجتك لها، وليس لك أنْ تأخذ ممَّنْ ائتمنته صَكاً، ولا أنْ تُحضر شهوداً، وإلا ما أصبحت أمانة، إذن: ليس عليها إثبات إلا أمانة مَنْ أخذها، فإنْ شاء أقرَّ بها وأدَّاها، وإنْ شاء أنكرها. فالأمانة إيعاد النفس بأن تكون مختارة في الفعل وغيره، فإنْ كانت مقهورة بصَكٍّ، أو بشهادة شهود لم تَعُدْ أمانة. والأمانة التي عرضها الحق سبحانه على خَلْقه هي أمانة الاختيار في أنْ يكون مختاراً في أنْ يؤمن أو يكفر، في أنْ يطيع أو يعصي، فكل ما عدا الإنسان رفض التحمُّل لأنه لم تأخذه الحمية وقت العَرْض والتحمُّل، مخافة أنْ يأتي وقت الأداء، فلا يجد له ذمة. وفَرْق بين وقت التحمُّل ووقت الأداء، فمَنْ يلاحظ وقت التحمل فقط يُقدِم عليها ويقبلها، لكن مَنْ يلاحظ مع التحمُّل الأداءَ يرفض، فربما مع حُسْن النية والرغبة في الأداء تتغير الظروف، أو تتغير الذمة، أو يطرأ عليك ما يُحوجك لها، فتمتد إليها يدك، فيأتي وقت الأداء، فلا تستطيع. كل أجناس الوجود ما عدا الإنسان أبَوْا، أن يحملوا الأمانة واختاروا القهر والتسيير للخالق عز وجل لأن الإنسان كما وصفه ربه { كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]. كذلك وصل عباد الله الصالحين إلى منزلة العبودية لله حين وجَّهوا اختيارهم حَسْب مراد ربِّهم، فالله أعطاهم الاختيار في الإيمان أو الكفر فآمنوا، وأعطاهم الاختيار في الطاعة وفي المعصية فأطاعوا، فوجَّهوا اختيارهم إلى ما أحبَّ ربهم، فصاروا من عباده المقربين. فكأنك إذن تنازلتَ عن اختيار نفسك في حرية الحركة، فصِرْتَ كالسماوات والأرض والجبال حين تنازلن عن اختيارهن لاختيار ربها ووصلْتَ - مع أنك مختار - إلى أنْ لا تختار إلا ما وضعه الله لك منهجاً.

السابقالتالي
2 3 4