الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } * { رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً }

السادة: جمع السيد، وهو الآمر المنفِّذ على غيره، ولا يغير عليه أحد، والكبراء: هم الذين يأخذون منازل في قومهم، على قَدْر ما يُؤدُّون لهم من خدمات، فسيد القوم أو كبير القوم لا يتبوَّأ هذه المنزلة من فراغ، إنما من مواهب وإمكانات تؤهله لهذه المنزلة لذلك لا يجد غضاضة في أنْ يقول له الناس: يا سيدي. لأنه دفع ثمن هذه السيادة وهذا هو السيد الحقيقي. وقد تُؤْخَذ السيادة بالقوة والجبروت والقهر، دون أن يُقدِّم السيدُ شيئاً يَسُودُ به قومه، وهذا تلصُّص على السيادة يبغضه الناس لذلك فإن الشرع الإسلامي لم يغفل هذه السيادة الحقيقية، ولم يغفل وجاهة الناس ومنزلتهم، فقيَّم ذلك كله مالياً في شركة سماها شركة الوجوه، فرأس مالي في الشركة أموال، ورأس مالك وجاهتك ومحبة الناس لك ومنزلتك في المجتمع. والناس يُحبُّون هذه السيادة الحقَّة التي أخذها صاحبها بحقها يحبونها لأنهم ينالون خيرها، وينتفعون بها على خلاف السيادة المسروقة التي أخذها صاحبها عُنْوةً، فهم لا يستفيدون منها بشيء، بل هي سيادة تضرُّهم، وتأكل خيراتهم. لذلك قلنا في العبودية: إنها كلمة نكرهها، إنْ كانت عبودية بشر لبشر لأنها عبودية تعطى خير العبد لسيده، إنما العِزّ كله في أنْ تكون العبودية لله تعالى، حيث يأخذ العبد خَيْر سيده. وتأمل كيف كانت العبودية شرفاً وتكريماً لسيدنا رسول الله حينما خاطبه ربه بقوله:سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا.. } [الإسراء: 1] فعبودية محمد لله هي التي أوصلته إلى هذه المنزلة التي لم يصل إليها بشر سواه. وصدق الشاعر حين قال:
حَسْبُ نَفْسِي عِزًّا بأنِّي عَبْدٌ   يَحْتفِي بِي بلاَ مَواعِيدَ رَبُّ
هُوَ فِي قُدسِهِ الأعَزِّ وَلكِنْ   أَنَا ألْقَى مَتَى وأيْنَ أُحِبُّ
فإنْ أردْتَ أنْ تقابل ربك، فالأمر في يدك، فأنت تحدد مكان المقابلة وزمانها وموضوعها، في الشارع، في البيت، في العمل، في المسجد مجرد أنْ تتوضأ وتقول: الله أكبر تصبح في حضرة ربك، ثم أنت الذي تُنهي المقابلة إنْ شئتَ، وربك عز وجل لا يملُّ حتى تملُّوا. فأيُّ عِزٍّ فوق هذا؟ في حين أنك إنْ أردتَ أنْ تقابل رئيساً مثلاً أو وزيراً فَدُون هذا اللقاء عقبات ومصاعب، وليس لك من أمر هذا اللقاء شيء، فهو الذي يحدد لك الزمان والمكان، حتى ما تقوله، وهو الذي يُنهي المقابلة. أنت في عبوديتك لله تعالى، ربُّك هو الذي يطلبك لحضرته، ويغضب إنْ دعاك ولم تُجِبْ، فنِعْم الرب ربُّك، ونِعمتْ العبوديةُ عبوديتُك له سبحانه. وهنا يُلْقى الكفار باللائمة على سادتهم وكبرائهم { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [الأحزاب: 67] ويريدون الانتقام منهم، وأنْ يُنفِّسوا عن أنفسهم بأنْ يروهم في العذاب جزاءَ ما أوقعوهم في الشرك، وزيَّنوا لهم المعصية.

السابقالتالي
2 3