الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ }

بعد أن ذكر الحق سبحانه الأبدية التي ستكون للكفار في النار يذكر وَصْفاً للحالة التي سيكونون عليها في النار { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ.. } [الأحزاب: 66] التقليب معناه تغيير الأمر وتصريفه من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى:لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } [آل عمران: 196-197]. يعني: أسفارهم ونشاطهم في حركة التجارة بين الشام واليمن، وما يترتب على هذه الحركة من أموال وثروات. فقوله: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ.. } [الأحزاب: 66] أي: تقلِّبهم الملائكة، فكلما نضج جانب قلبوهم على الجانب الآخر كما تُقلِّب نحن سيخ الكباب على النار لتستوعبه كله، فيتم نُضْجه. وخَصَّ الوجه، لأنه سِمَة الإعلام بالشخص، وأشرفُ أعضائه وأكرمها، ومنه أُخذت الوجَاهة والوجيه، وكلها تدل على الشرف، ونظراً لأنه أشرف الجوارح، فالجوارح كلها تحميه وتدافع عنه، وسبق أنْ قُلْنا: لو أن سيارة أسرعتْ بجوارك، ولطختْ ثيابك ووجهك بالوحل مثلاً، ماذا تفعل؟ أولاً: تنشغل بوجهك وتزيل ما أصابه من أذىً، ثم تلتفت إلى ثيابك. ولتعلم أهمية الوجه ومنزلته، اقرأ قوله تعالى:أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ.. } [الزمر: 24] فمِنْ شِدَّة العذاب يتقيه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه. أو: أن معنى التقليب من عذاب إلى عذاب، وقد أعطانا الحق سبحانه صوراً متعددة لوجوه الكافرين في النار، والعياذ بالله، فقال مَرَّةً:تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ.. } [الزمر: 60]. وقال:وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } [عبس: 40-42]. وقال:وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [القيامة: 24-25]. فالوجه هنا لا يأخذ صورة واحدة، إنما يأخذ ألواناً متعددة وأحوالاً شتى، تدلُّ على تنوع ما يتعرضون له من العذاب والإيلام، والوجه هو الدليل الأول على صاحبه، والمترجم عَمَّا بداخِله، فحين يتغير لك صاحبك مثلاً تلحظ ذلك على وجهه، فتقول: ما لك تغيَّر وجهك من ناحيتي؟ أو لماذا تقلَّب وجهُكَ عني؟ وهؤلاء حالَ تقلُّب وجوههم في النار، يقولون: { يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ } [الأحزاب: 66] وهم الذين كانوا بالأمس يُؤذون الله، ويؤذون الرسول، ويؤذون المؤمنين. كلمة { يٰلَيْتَنَآ.. } [الأحزاب: 66] كلمة تمنُّ، وهو لَوْن من الطلب تتعلق به النفس وتريده، لكن هيهات، فهو عادةً يأتي في المُحَال، وفي غير الممكن، كما جاء في قول الشاعر:
ألاَ ليْتَ الشباب يَعُودُ يَوْماً   فَأُخبرهُ بما فَعل المشِيبُ
وقول الآخر:
لَيْتَ الكَواكِب تَدْنُو لِي فَأَنظِمُهَا   عُقُودَ مَدْحٍ فَمَا أَرْضَى لكُمْ كَلمى
فالشباب لا يعود، والكواكب لا تدنو لأحد، لكنها أُمنية النفس، كذلك هؤلاء يتمنَّوْنَ أنْ لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا رسول الله، لكن هيهات أنْ يُجْدِي ذلك، فقد فات الأوان. ثم يذكر الحق سبحانه المقابل، فهم ما أطاعوا الله وما أطاعوا رسول الله، لكن حجتهم: { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا... }.