الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ }

ترتبط هذه الآية بالآيات قبلها، فقد ذكر الله تعالى معسكرين: معسكراً يحب أنْ يُطاع، فقال تعالى لرسولهيَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ.. } [الأحزاب: 1] وقال:وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ.. } [الأحزاب: 2] وبينهما معسكر آخر نُهِي رسول الله عن طاعتهوَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ.. } [الأحزاب: 1]. إذن: نحن هنا أمام معسكرين: واحد يمثل الحق في أجلى معانيه وصوره، وآخر يمثل الباطل، وللقلب هنا دَوْر لا يقبل المواربة، إما أنْ ينحاز ويغلب صاحب الحق، وإما أنْ يغلب جانب الباطل، وما دمت أنت أمام أمرين متناقضين لا يمكن أنْ يجتمعا، فلا بُدَّ أن تُغلِّب الحق لأن الله تعالى: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.. } [الأحزاب: 4] إما الحق وإما الباطل، ولا يمكن أن تتقي الله وتطيع الكافرين والمنافقين لأن القلب الذي يميل ويغلب قلب واحد. ومعلوم أن القلب هو أهم عضو في الجسم البشري فإذا أصيب الإنسان بمرض مثلاً يصف له الطبيب دواءً، الدواء يُؤخذ عن طريق الفم ويمرُّ بالجهاز الهضمي، ويحتاج إلى وقت ليتمثل في الجسم، فإنْ كانت الحالة أشدَّ يصف حقنة في العضل، فيصبُّ الدواء في الجسم مباشرة، فإنْ كان المرض أشد يُعْطَى حقنة في الوريد لماذا؟ ليصل الدواء المطلوب جاهزاً إلى الدم مباشرة، ليضخه القلب إلى جميع الأعضاء في أسرع وقت. إذن: فالدم هو الذي يحمل خصائص الشفاء والعافية إلى البدن كله، والقلب هو الموتور الذي يؤدي هذه المهمة لذلك عليك أنْ تحتفظ به في حالة جيدة، بأن تملأه بالحق حتى لا يفسده الباطل. وسبق أنْ أوضحنا أن الحيز الواحد لا يمكن أنْ يسع شيئين في وقت واحد فما بالك إنْ كانا متناقضين؟ وقد مثَّلْنا هذه العملية بالزجاجة الفارغة إنْ أردتَ أن تملأها بالماء لا بُدَّ أنْ يخرج منها الهواء أولاً ليدخل مكانه الماء. كذلك الحال في المعاني، فلا يجتمع حق وباطل في قلب واحد أبداً، وليس لك أنْ تجعل قلباً للحق وقلباً للباطل لأن الخالق جعل لك قلباً واحداً، وجعله محدوداً لا يسع إلا إيمانك بربك، فلا تزاحمه بشيء آخر. ويُرْوَى أنه كان في العرب رجل اسمه جميل بن أسد الفهري وكان مشهوراً باللسَنِ والذكاء، فكان يقول: إن لي قلبين، أعقل بواحد منهما مثل ما يعقل محمد، فشاء الله أنْ يراه أبو سفيان وهو منهزم بعد بدر، فيقول له: يا جميل، ما فعل القوم؟ قال: منهم مقتول ومنهم هارب، قال: وما لي أراك هكذا؟ قال: مالي؟ قال: نعل في كفِّك، ونعل في رِجْلك، قال: والله لقد ظننتهما في رجلي، فضحك أبو سفيان وقال له: فأين قلباك؟ وإذا كان القلب هو المضخة التي تضخ الدم إلى كل الجوارح والأعضاء حاملاً معه الغذاء والشفاء والعافية، كذلك حين تستقر عقائد الخير في القلب، يحملها الدم كذلك إلى الجوارح والأعضاء، فتتجه جميعها إلى طاعة الله، فالرِّجْل تسعى إلى الخير، والعين لا تنظر إلا إلى الحلال، والأذن تسمع القول فتتبع أحسنه، واللسان لا ينطق إلا حقاً.

السابقالتالي
2 3 4 5