الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً }

جمعتْ هذه الآية أيضاً بين المذكر والمؤنث في { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ.. } [الأحزاب: 36] فهي امتداد للآية السابقة، فهي تخدم ما قبلها، وتخدم أيضاً ما بعدها، وما به أصل السبب لأنها نزلتْ في عبد الله بن جحش وأخته زينب، حين رفضا زواج زينب من زيد بن حارثة، فالمؤمن عبد الله بن جحش، والمؤمنة أخته زينب من حيث هما سبب لنزول الآية، وإلا فهي لجميع المؤمنين وجميع المؤمنات. وسبق أنْ ذكرنا قصة زيد بن حارثة، وملخصها أنه سُرِق من أهله، وبِيع في سوق العبيد على أنه عبد، فاشتراه حكيم بن حزام، ثم وهبه للسيدة خديجة أم المؤمنين، فوهبته خديجة رضي الله عنها لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار مَوْلىً لرسول الله. وبينما هو ذات يوم بالسوق، إذ رآه جماعة من قومه فعرفوه، وأخبروا أباه أنه بالمدينة، فجاءه أبوه وأعمامه، وحكَوْا لرسول الله قصته، وطلبوا عودته معهم، فقال رسول الله: خيِّروه، فإن اختاركم فهنيئاً لكم، وإنِ اختارني، فَمَا كان لي أنْ أُسْلِمه، فردَّ زيد وقال: والله ما كنت لأختار على رسول الله أحداً. فأراد سيدنا رسول الله أنْ يكافىء زيداً على هذا التصرف، فنسبه إليه على عادة العرب في هذا الوقت، فسمَّاه زيد بن محمد. فلما أراد الحق سبحانه أن ينهي هذه العادة، ومثلها عادة الظهار، نزل قوله سبحانه:مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ.. } [الأحزاب: 4]. فكما أن الرجل لا يكون له إلا قلب واحد، كذلك لا يكون له إلا أب واحد، وشاء الله أنْ يبدأ بمُتَبنَّى رسول الله ليكون نموذجاً تطبيقياً عملياً أمام الناس، وكانت هذه الظاهرة يترتب عليها أنْ يرث المتبنَّى من المتبنِّي بعد موته، وأنْ تُحرم زوجة المتبنَّى أنْ يتزوجها المتبنِّي. صحيح أن القضاء على هذه العادة قضاءٌ على نظام اجتماعي فاسد موجود في الجزيرة العربية، لكنه في الوقت نفسه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنَّى كما يتبنَّى العرب، وأن الله تعالى أبطل من رسول الله هذا التصرّف وهذا سيفتح الباب أمام معاندي رسول الله أنْ يَشْمتوا فيه، وأن تتناوله ألسنتهم لذلك عالج الحق سبحانه هذه القضية علاج ربٍّ بإنفاذ الأمر في نُصْرة حبيب له، فلم يُشوِّه عمل الرسول، إنما جعل فِعْله عَدْلاً، وحكمه سبحانه أعدل، فقال:ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ.. } [الأحزاب: 5]. والمعنى: إنْ كُنتم جعلتم من العدل والمحبة أنْ تكفلوا هؤلاء الأولاد، وأنْ تنسبوهم إليكم، فهذا عَدْل بشريٌّ، لكن حكم الله أعدل وأقْسَط، وشرفٌ لرسول الله أنْ يردَّ اللهُ حكمه إلى حكم ربه، وشرفٌ لرسول الله أن يكون له الأصل في المسألة، وأنه يحكُم، فيردّ الله حكمه إلى حكمه، فهذا تكريم لرسول الله.

السابقالتالي
2 3 4 5 6