الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً }

معنى { يَقْنُتْ.. } [الأحزاب: 31] أي: يخضع لله تعالى الخضوع التام، ويخشع ويتذلَّل لله في دعائه، واختار الحق سبحانه القنوت لأنه سبحانه لا يحب من الطائع أنْ يُدِلَّ على الناس بطاعته لذلك يقول العارفون: رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثتْ عِزَّاً واستكباراً. أو { وَمَن يَقْنُتْ.. } [الأحزاب: 31] أي: بالغ في الصلاح، وبالغ في الورع حتى ذهب إلى القنوت، وهو الخضوع والخشوع. والنتيجة { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ.. } [الأحزاب: 31] فالآية السابقة تقرر مضاعفة العذاب لمن تأتي بالفاحشة، وهذه تقرر مضاعفة الأجر لمن تخضع لله وتخشع وتعمل صالحاً. { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [الأحزاب: 31] أي: أعددناه وجهّزناه لها من الآن، فهو ينتظرها. وحين تتأمل الأسلوب القرآني في هاتين الآيتين تطالعك عظمة الأداء، فحين ذكر الفاحشة ومضاعفة العذاب جاء الفعليُضَاعَفْ.. } [الأحزاب: 30] مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله، أما في الكلام عن القنوت لله، فقال { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا.. } [الأحزاب: 31] فجاء الفعل مُسْنداً إلى الحق سبحانه مباشرة، وكأن الحق سبحانه لم يُرِدْ أنْ يواجه بذاته في مقام العذاب، إنما واجه بالعذاب فقط. ومجرد بناء الفعليُضَاعَفْ.. } [الأحزاب: 30] للمجهول يدل على رحمة الله ولُطْفه في العبارة، فالحق سبحانه يحب خَلْقه جميعاً، ويتحبب ويتودد إليهم، ويرجو من العاصي أنْ يرجع ويفرح سبحانه بتوبة عبده المؤمن أكثر من فرح أحدكم حين يجد راحلته وقد ضلَّتْ منه في فلاة. وجاء في الأثر: " يا ابن آدم، لا تخافنَّ من ذي سلطان ما دام سلطاني باقياً وسلطاني لا ينفد أبداً، يا ابن آدم، لا تخْشَ من ضيق الرزق وخزائني ملآنة وخزائني لا تنفد أبداً، يا ابن آدم، خلقتُكَ للعبادة فلا تلعب - والمراد باللعب العمل الذي لا جدوى منه - وقسمتُ لك رزقك فلا تتعب ". والمراد هنا لا تتعب، ولا تشغل قلبك، فالتعب يكون للجوارح، كلما جاء في الحديث الشريف: " مَنْ بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له " ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يداً خشنة من العمل قال: " هذه يد يحبها الله ورسوله ". فالتعب تعب القلب، فالشيء الذي يطيقه صدرك، وتقدر على تحمُّله لا يُتعِبك لذلك نجد خالي الصدر من الهموم يعمل في الصخر وهو هادىء البال، يغني بحداء جميل ونشيد رائع يُقوِّي عزيمته، ويعينه على المواصلة، فتراه مع هذا المجهود فَرِحاً منشرحَ الصدر. وقد فطن الشاعر العربي لهذه المسألة فقال:
لَيْسَ بحمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهر   مَا الحمْلُ إلاَّ مَا وَعَأهُ الصَّدْرُ
فالمعنى: أتعب جوارحك، لكن لا تُتعِب قلبك، والكَلَل والتعب لا يأتي على الجوارح إنما على القلب، فأتعب جوارحك في العمل الجاد النافع الذي تأخذ من ثمرته على قدر حاجتك، وتفيض بالباقي على غير القادرين.

السابقالتالي
2