الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

مادة نزل وردتْ في القرآن بلفظ: نزل، ونزَّل، وأنزل، أنزل تدل على التعدية، يعني: أن الله تعالى عدَّى القرآن من اللوح المحفوظ، إلى أنْ يباشر مهمته في السماء الدنيا، وهذا الإنزال من الله تعالى. أما نزَّل فالتنزيل مهمة الملائكة لذلك يقول تعالى في الإنزال:إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْر } [القدر: 1] أي: من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم تتنزَّل به الملائكة مُنجَّماً حسب الأحداث، وفي ذلك يقول تعالى:نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193]. ويقول سبحانه:وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ.. } [الإسراء: 105] فقد كان محفوظاً عندنا في اللوح المحفوظلاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 79] ثم نزل به الروح الأمين جبريل. وما دامنَزَلَ بِهِ.. } [الشعراء: 193] فهذا يعني أن القرآن نزل معه، فقوله:نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193] تساوي تماماًوَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ.. } [الإسراء: 105]. فالنزول يُنسَب مرة إلى القرآن، ومرَّة إلى الروح الأمين. ومادة نزل وما يُشتق منها من إنزال وتنزيل تفيد كلها أنه جاء من جهة العلو إلى جهة أسفل منه، كأنك تتلقّى من جهة أعلى منك وأرفع، وما دُمْتَ تتلقى من جهة أعلى منك، فإيَّاك أنْ يضل بك الفكر لناحية أخرى. لذلك يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم في أمر التكليف:قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.. } [الأنعام: 151] فنحن نفهم أن تعالوا بمعنى تعالَ. أي: أقبل، لكنها تحمل مع هذا المعنى معنى العلو: أقبل دانياً إلى متعالٍ، تعالَ من أوضاعك الرضية إلى عُلُو ربك في الملأ الأعلى. تعالَ يعني: لا تأخذ من نفسك ولا من مُسَاوٍ لك، إنما ارتفع وخُذْ من الأعلى، ارتفع عن مستوى الأرض وعقولهم وأفكارهم، وخُذْ من الذي شرَّع لك لأنه لا بُدَّ أن تكون عنده أمور ومواصفات آمن لك وأسلم لأن علمه أوسع، فلا يُشَرِّع لك اليوم ما ينقضه غداً. ثم إنَّ شرعه لك يستوعب كل نواحي حياتك وأقضيتها، وهذه المواصفات لا تكون إلا في الحق - تبارك وتعالى - وهو سبحانه أرحم بك من الوالدة بولدها، فلا يُشرِّع لك إلا ما يُصلحك، ثم هو سبحانه ليس له غرض أو مصلحة ذاتية من وراء هذا التشريع، كما نرى في تشريعات البشر للبشر. وقد رأينا الرأسماليين حينما شرّعوا قانوناً جاء يخدمهم، وليكونوا هم أول المنتفعين به لذلك سرعان ما تهاوى لأن شرط المشرِّع الحق ألاَّ ينتفع هو بما يُشرِّع، وعليه فلا مشرِّع حقٍّ إلا الله. لذلك رأينا حتى غير المؤمنين بالله من الكافرين أو المشركين بعد أنْ تعضَّهم الأحداث، وتخفق قوانينهم في حَلِّ مشاكلهم يلجئون إلى حلول لها من قوانين الإسلام. ولما سُئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالى:هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ }

السابقالتالي
2