الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

هنا قد يسأل سائل: لماذا جعل الله الناسَ: مؤمناً وكافراً، وطائعاً وعاصياً؟ لماذا لم يجعلنا جميعاً مهتدين طائعين؟ أهذا صعب على الله سبحانه؟ لا، ليس صعباً على الله تعالى، بدليل أنه خلق الملائكة طائعين مُنفِّذين لأوامره سبحانهلاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]. كذلك الأرض والسماء والجبال.. إلخ، كلها تُسبِّح الله وتعبدهكُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ.. } [النور: 41]. وقال:وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.. } [الإسراء: 44]، وبعد ذلك يعطي الله تعالى لبعض خَلْقه معرفة هذا التسبيح، كما قال في حق داود عليه السلام:وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ.. } [الأنبياء: 79]. نعم، هي تُسبِّح أيضاً مع غير داود، لكن الميزة أنها تشترك معه في تسبيح واحد، كأنهم كورس يرددون نشيداً واحداً. وعرفنا في قصة الهدهد وسليمان - عليه السلام - أنه كان يعرف قضية التوحيد على أتمِّ وجه، كأحسن الناس إيماناً بالله، وهو الذي قال عن بلقيس ملكة سبأ:وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } [النمل: 24]. وقالأَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [النمل: 25]. والحق - سبحانه وتعالى - حينما يريد أنْ يُدلِّل لخَلْقه على قدرته يجعل من الضعف قوة، ومن القوة ضعفاً، وانظر إلى حال المؤمنين الأوائل، وكم كانوا أذلة مستضعفين، فلما أسلموا رفعهم الله بالإسلام وجعلهم سادة. ومشهورة قصة الصِّدِّيق أبي بكر لما أَدخل عليه المستضعفين أمثال: عمار وبلال.. وترك صناديد قريش بالباب، فعاتبه أبوه على ذلك: كيف يُدخِل العبيد ويترك هؤلاء السادة بالباب؟ فقال أبو بكر: يا أبي، لقد رفع الإسلام الخسيسة، وإذا كان هؤلاء قد ورمتْ أنوفهم أن يدخل العبيد قبلهم، فكيف بهم حين يُدخِلهم اللهُ الجنةَ قبلهم؟ وعجيب أن يصدر هذا الكرم من الصِّدِّيق أبي بكر، مع ما عُرِف عنه من اللين ورِقَّة القلب والحلم. وهذا لون من تبديل الأحوال واجتماع الأضداد، وقد عرض الحق - تبارك وتعالى - لهذه المسألة في قوله تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [المطففين: 29-30] يعني: يسخرون منهم ويهزأون بهم، كما نسمع من أهل الباطل يقولون للإنسان المستقيم خدنا على جناحك. وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد، إنما إذا عادوا إلى أهلهم كرروا هذا الاستهزاء، وتبجحوا به، وفرحوا لإيذائهم لأهل التقوى والاستقامة:وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [المطففين: 31-33] لكن يُنهي الحق سبحانه هذا الموقف بقوله:فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ }

السابقالتالي
2 3