الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

جاءت هذه الآية كوصف للمحسنين، فهل هذه هي كل صفاتهم، أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وبالآخرة هم يوقنون؟ قالوا: لا لكن هذه الصفات هي العُمد الأساسية، والحق سبحانه يريد من خَلْقه سواسية في العبودية، وهذه السواسية لا تتأتى إلا إذا تساوى الجميع. وفي الصلاة بالذات تتجلى هذه المساواة، وفيها يظهر عِزّ الربوبية وذل العبودية، وفيها منتهى الخضوع لله عز وجل، ثم هي تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة. أما الفرائض الأخرى فلا تأخذ هذه الصورة، فالزكاة مثلاً تجب مرة واحدة في العاموَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام: 141] وتجب على القادر فقط دون غيره، كذلك الصوم والحج، فكأن الصلاة هي عمدة العبادات كلها، ولشرفها ومنزلتها جعلها الله لازمة للعبد ولا تسقط عنه بحال أبداً لذلك شُرعت صلاة المريض والمسافر والخائف... الخ. وفي الصلاة استطراق للعبودية في الخَلْق جميعاً، حيث نخلع أقدارنا حين نخلع نعالنا على باب المسجد، ففي الصف الواحد، الرئيس والمرءوس، والكبير والصغير، والرفيع والوضيع - نقصد الوضيع في نظر الناس، وربما لا يكون وضيعاً عند ربه - فالجميع هنا سواء، ثم حين نرى الكبار والرؤساء والسادة معنا في الصفوف خاضعين لله أذلاء تزول بيننا الفوارق، ويدكُّ في نفوسهم الكبرياء، فلا يتعالى أحد في مجتمع المسلمين على أحد. ولمنزلة الصلاة وأهميتها رأينا كيف أنها الفريضة الوحيدة التي فرضها الله علينا بالمباشرة، أما باقي التكاليف فقد فُرِضَتْ بواسطة الوحي، وسبق أنْ ضربنا مثلاً لذلك برئيس العمل حينما يأتيه أمر هام، فلا يأمر به بمكاتبة أو بالتليفون، إنما يستدعي الموظف المختص إلى مكتبه، ويلقي إليه الأمر مباشرة. وكذلك رسول الله استدعاه ربه إلى السماء، وأخذ حظاً بالقُرْب من الله تعالى، والله سبحانه يعلم حب الرسول لأمته وحرصه عليهم، وعلى أنْ ينالوا هم أيضاً هذا القرب من حضرته تعالى، فأجابه ربه، وجعل الصلاة حضوراً للعبد في حضرته تعالى، وقرباً كقرب رسول الله في رحلة المعراج. لذلك خاطبه ربه بقوله:وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 5] فقال سيدنا رسول الله: " إذن، لا أرضى وواحد من أمتي في النار ". وكما تُحدِث الصلاة استطراق عبودية تُحِدث الزكاةُ في المجتمع استطراقاً اقتصادياً، فيعيش الجميع الغني والفقير عيشة كريمة مُيسَّرة، فلا يشبع واحد حتى التخمة، والآخر يموت جوعاً. وما بالك بمجتمع لا يتعالى فيه الكبير على الصغير ولا يبخل فيه الغني على الفقير؟ إذن: في الصلاة والزكاة ما يكفل سعادة المجتمع كله. وقد فرض الله الزكاة للفقراء لأن الله سبحانه حين يستدعي عبد إلى كونه لا بُدَّ أنْ يضمن له مُقومات الحياة، ولم لا وأنت إذا دعوْتَ شخصاً إلى بيتك لا بُدَّ أنْ تكرمه، وأنْ تُعِد له على الأقل ضروريات ما يلزمه فضلاً عن الإكرام والحفاوة ورفاهية المأكل والمشرب.

السابقالتالي
2 3