الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }

{ يٰبُنَيَّ.. } [لقمان: 16] نداء أيضاً للتلطف والترقيق { إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ.. } [لقمان: 16] يريد لقمان أن يدل ولده على صفة من صفات الحق سبحانه، هي صفة العلم المطلق الذي لا تخفى عليه خافية، وكأنه يقول له: إياك أن تظن أن ما يخفى على الناس يخفى على الله تعالىأَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [الملك: 14]. وكما أن الله تعالى لا يخفى عليه مثقال حبة من خردل، حتى إن كانت في باطن صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض، كذلك لا تخفى عليه حسنة ولا سيئة مهما دَقَّتْ، ومهما حاول صاحبها إخفاءها. وقلنا: إن المستشرقين وقفوا عند مسألة علم الله الخفي بخفايا خَلْقه، وعند قوله تعالى:يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [الأنبياء: 110] يقولون: الله يمتنُّ بعلم ما نكْتُم، فكيف يمتنُّ بعلم الجهر، وهو معلوم للجميع؟ ونقول: الحق سبحانه في قوله:إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [الأنبياء: 110] لا يخاطب فرداً، إنما يخاطب جماعة، فهو يعلم جَهْر الجماعة في وقت واحد، ومثَّلْنا لذلك بمظاهرة مثلاً، فيها الآلاف من البشر يهتفون بأصوات مختلفة وشعارات شتى، منها ما يعاقب عليه القانون، فهل تستطيع مع اختلاط الأصوات وتداخلها أن تُميِّز بينها، وتُرجع كل كلمة إلى صاحبها؟ إنك لا تستطيع، مع أن هذا جهر يسمعه الجميع، أما الحق - تبارك وتعالى - فيعلم كل كلمة، ويعلم مَنْ نطق بها ويردّ كل لفظ إلى صاحبه. إذن: من حقه تعالى أن يمتنَّ بعلم الجهر، بل إن عِلْم الجهر أعظم من علْم السرِّ وأبلغ. وقوله تعالىمِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ.. } [لقمان: 16] أي: وزن حبة الخردل، وكانت أصغر شيء وقتها، فجعلوها وحدة قياس للقلة، وليس لك الآن أن تقول: وهل حبة الخردل أصغر شيء في الوجود؟ فالقرآن ذكرها مثالاً للصِّغَر على قدر معرفة الناس بالأشياء عند نزوله، أما من حيث التحقيق فقد ذكر القرآن الذرة والأقلَّ منها. لذلك لما اخترعوا في ألمانيا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد أي الجزء الذي لا يتجزأ، واستطاعوا تفتيت الذرة، ظنوا أن في هذه العملية مأخذاً على القرآن، فقد ذكر القرآن الذرة، وجعلها مقياساً دينياً في قوله تعالى:فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة: 7-8] لكن لم يذكر الأقلَّ منها، ومعلوم أن الجزء أصغر من كله. ونقول: قرأتم شيئاً وغابت عنكم أشياء، ولو كان لديكم إلمام بكلام الله لعلمتم أن فيه احتياطاً لما توصلتم إليه، ولما ستتوصلون إليه فيما بعد، واقرأوا إن شئتم قول الله تعالى عن الذرة:وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

السابقالتالي
2