يؤكد الحق سبحانه على أمر الوالدين، وكأنه سبحانه استدرك غير مُستدرَك، فليس لأحد أنْ يستدرك على الله، وكأن واحداً كان يناقش رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوالدين وما نزل في شأنهما، فسأل: كيف لو أمراني بالكفر، أأكفر طاعةً لهما؟ لذلك جاء الحكم من الله في هذه المسألة. وفي آية العنكبوت:{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 8]. فذكر فيها حُسنْاً ولم يقل فيها { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً.. } [لقمان: 15] فكأن كلمة الحُسْن، وهي الوصف الجامع لكلِّ مدلولات الحُسْن أغنتْ عن المصاحبة بالمعروف. ومعنى { جَاهَدَاكَ.. } [لقمان: 15] نقول: جاهد وجهد، جهد أي في نفسه، أما جاهد ففيها مفاعلة مع الغير، نقول: جاهد فلان فلاناً مثل قاتل، فهي تدل على المشاركة في الفعل، كما لو قلت: شارك عمرو زيداً، فكل منهما فاعل، وكل منهما مفعول، لكن تغلب الفاعلية في واحد، والمفعولية في الآخر. فمعنى { وَإِن جَاهَدَاكَ.. } [لقمان: 15] لا تعني مجرد كلمة عَرَضَا فيها عليك أن تشرك بالله، إنما حدث منهما مجهود ومحاولات لجذبك إلى مجاراتهما في الشرك بالله، فإن حدث منهما ذلك فنصيحتي لك { فَلاَ تُطِعْهُمَا.. } [لقمان: 15]. ثم إياك أنْ تتخذ من كفرهما ودعوتهما لك إلى الكفر سبباً في اللدد معهما، أو قطع الرحم، فحتى مع الكفر يكون لهما حق عليك { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً.. } [لقمان: 15] ثم إنهما كفرا بي أنا، وأنا الذي أوصيك بهما معروفاً. وقوله تعالى: { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ.. } [لقمان: 15] أي: لن تكون وحدك، إنما سبقك أُنَاسٌ قبلك تابوا وأنابوا فكُنْ معهم { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ.. } [لقمان: 15] أي: مأواكم جميعاً. قالوا: إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خالي سعد، فليُرني امرؤ خاله " ولما أسلم سعد غضبت أمه - وكانت شديدة الحب له فكادت تُجَنُّ وحلفتْ لا تأكل ولا تشرب ولا تغتسل، وأنْ تتعرَّى في حَرِّ الشمس حتى يرجع دينه، فلما علم سعد بذلك قال: دعوها والله لو عضَّها الجوع لأكلتْ، ولو عضَّها العطش لشربتْ، ولو أذاها القمل لاغتسلتْ، أما أنا فلن أحيد عن الدين الذي أنا عليه، فنزلت: { وَإِن جَاهَدَاكَ.. } [لقمان: 15]. ولو أن الذي يكفر بالله ويريد لغيره من المؤمنين أنْ يكفر معه كابن أو غيره، ثم يرى وصية الله به رغم كفره لعلم إن الله تعالى رب رحيم لا يستحق منه هذا الجحود.