الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ }

أولاً: ذكر الحق سبحانه آية كونية لم يدَّعها أحد لنفسه من الكفار أو من الملاحدة، وهي آية موجودة ومُشَاهدة، وبعد أن قال سبحانه أنا خالق السماء والأرض لم يعارضه أحد، ولم يأْتِ مَنْ يعارضه فيقول: بل أنا خالق السماء والأرض. وسبق أنْ قلنا: إن القضية تسلم لصاحبها ومدعيها إذا لم يَقُمْ لها معارض، فإن كانت هذه القضية صحيحة، والحق سبحانه هو الخالق فقد انتهتْ المسألة، وإذا كان هناك خالق غيره سبحانه فأين هو؟ هل درى أن واحداً آخر أخذ منه الخَلْق، ولماذا لم يعارض ويدافع عن حقِّه؟ أو أنه لم يَدْرِ بشيء فهو إله نائم على ودنه، وفي كلا الحالين لا يصلح أن يكون إلهاً يُعبد. لذلك قال تعالى:شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18]، فهذه شهادة الذات للذات، ولم يعارضها معارض فصَحَّتْ لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض. وسبق أن مثَّلنا لذلك - ولله المثل الأعلى - بجماعة جلسوا في مجلس فلما انفضَّ مجلسهم وجد صاحب البيت حافظة نقود لا يعرف صاحبها، فاتصل بمن كانوا في مجلسه، وسألهم عنها فلم يقُلْ واحد منهم أنها له، إلى أن طرق الباب أحدهم وقال: واللهِ لقد نسيت حافظة نقودي هنا، فلا شكَّ إذن أنها له وهو صاحبها حيث لم يدَّعها واحد آخر منهم. والحق سبحانه يقول في إثبات هذه القضية:قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء: 42] أي: لذهبوا يبحون عمَّنْ أخذ منهم الخَلْق والناس، وأخذ منهم الألوهية. فإنْ قالوا نحن آلهة لكن فوقنا إله أكبر يردُّ الحق عليهم:مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51]. وقوله تعالى: { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [لقمان: 10] حين تدور في أنحاء الكرة الأرضية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها تجد السماء تظلّك، ومع سعة السماء لا تجد لها عمداً ترفعها، وكلمة { تَرَوْنَهَا } [لقمان: 10] تحمل معنيين: إما هي فعلاً بغير عمد، أو لها عمد لكن لا نراها { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [لقمان: 10] يعني: لا نرى لها عمداً، لكن الحقيقة أن لها عمداً لا ترونها بإحساسكم ومقاييسكم. فإنْ قلت، فما هذه العمد التي لا نراها؟ البعض يقول: هي الجاذبية، وهذا القول مجانب للصواب، والحق سبحانه يكفينا مؤنة البحث في هذه المسألة، فيقول سبحانه:.. وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [الحج: 65]. إذن: لا نملك إلا أنْ نقول إنها ممسوكة بقدرة الله، ولكي لا نحار في كيفية ذلك يُقرِّب الله لنا هذه المسألة بمثال مُشاهد لنا، فالطير يمسكه الله في جو السماء:

السابقالتالي
2 3 4 5