الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ }

وهذه الآية تعني أننا لم نترك معذرة لأحد ممن كفروا برسلهم لأننا جئنا لهم بأمثال متعددة وألوان شتى من الأدلة المشاهدة ليستدلوا بها على غير المشاهد ليأخذوا من مرائيهم ومن حواسهم دليلاً على ما غاب عنهم. فحين يريد سبحانه أن يقنعهم بأن يؤمنوا بإله واحد لا شريك له يضرب لهم هذا المثَلَ من واقع حياتهم:ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً.. } [الزمر: 29]. هل يستوي عبد لسيد واحد مع عبد لعدة أسياد يتجاذبونه، إنْ أرضي واحداً أسخط الآخرين؟ ثم يُقرِّب المسألة بمثَلٍ من الأنفس، وليس شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه، فيقول الحق سبحانه وتعالى:ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الروم: 28]. والمعنى: إذا كنتم لا تقبلون أنْ يشارككم مواليكم فيما رزقكم الله، فتكونون في هذا الرزق سواء، فكيف تقبلون الشركة في حق الله تعالى؟ وحين يريد الحق سبحانه أنْ يبطل شرْكهم وعبادتهم للآلهة يضرب لهم هذا المثلإِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [الحج: 73]. والمَثَل يعني أنْ تُشبِّه شيئاً بشيء، وتلحق خفياً بجلي، لتوضحه وليستقر في ذِهْن السامع، كأن تشبه شخصاً غير معروف بشخص معروف، ويُسَمَّى هذا: مثْل أو مَثَل، نقول: فلان مثْل فلان. أما المثل فقول من حكيم شاع على الألسنة، وتناقله الناس كلما جاءت مناسبته، وسبق أنْ مثَّلنا لذلك بالملك الذي أرسل امرأة تخطب له أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني، وكان اسمها عصام، فلما عادت من المهمة بادرها بقوله: ما وراءكِ يا عصام؟ فصارت مثلاً يُقال في مثل هذه المناسبة مع أنه قيل في حادثة مخصوصة. والمثل يقال كما هو، لا نغير فيه شيئاً، فنقول: ما وراءك يا عصام للمذكر وللمؤنث، وللمفرد وللمثنى وللجمع. ومن ذلك نُشبِّه الكريم بحاتم، والشجاع بعنترة.. الخ لأن حاتماً الطائي صار مضربَ المثل في الكرم، وعنترة في الشجاعة. وفي المثال نقول لمن يواجه بمَنْ هو أقوى منه: إنْ كنت ريحاً فقد لاقيتَ إعصاراً، ونقول لمن لم يُعِدّ للأمر عُدَّته: قبل الرماء تُملأ الكنائن. إذن: المثل قول شبه مضربه الآن بمورده، سابقاً لأن المورد كان قوياً وموجزاً لذلك حُفِظ وتناقلته الألسنة. والقرآن يسير على أسلوب العرب وطريقتهم في التعبير وتوضيح المعنى بالأمثال حتى يضرب المثل بالبعوضة، والبعض يأنف أنْ يضرب القرآن بجلاله وعظمته مثلاً بالبعوضة، وهو لا يعلم أن الله يقول:إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.. }

السابقالتالي
2 3 4