الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ }

بعد أنْ عرض الحق - سبحانه وتعالى - الدليل ليهتدي به مَنْ يشاء، ومَنْ لم يهتَد يُلوِّح له بهذا التهديد: { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ.. } [الروم: 55] معنى كلمة { تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ.. } [الروم: 55] تدل على أنها موجودة، لكن نائمة تنتظر الإذن لها، فتقوم تنتظر أنْ نقول لها: كُنْ فتكون. فالقيام هنا له دلالته لأن الساعة أمر لا يتأتَّى به القيام، إنما يقيمها الحق سبحانه، فقوله { تَقُومُ.. } [الروم: 55] كأنها منضبطة كما تضبط المنبه مثلاً، ولها وقت تنتظره، وهي من تلقاء نفسها إنْ جاء وقتُها قامتْ. وحين تتأمل كلمة { تَقُومُ.. } [الروم: 55] تجد أن القيام آخر مرحلة للإنسان ليؤدي مهمته، فيقابلها ما قبلها، فقبل القيام القعود، ثم الاضطجاع، ثم النوم، فمعنى قيام الساعة يعني: أنها جاءت لتؤدي مهمتها أداءً كاملاً. وسُمِّيَتْ الساعة لأنها دالة على الوقت الذي يأذن الله فيه بإنهاء العالم، وإنْ كانت الساعة عندنا كوحدة الحساب الزمن نقول: صباحاً أو مساءً وَفْق حساب الحكومة أو الأهالي، توقيت كذا أو كذا. هذه الآلة التي في أيدينا بما تضبطه لنا من وقت أمرها هيِّن، ليست مشكلة أنْ تُقدِّم أو تُؤخِّر عدة ثوانٍ أو عدة دقائق، تعمل أتوماتيكياً أو بالحجارة، صُنِعتْ في سويسرا، أو في الصين، هذه الساعة لا تهم، المهم الساعة الأخرى، الساعة التي لا ساعة بعدها، واعلم أنها منضبطة عند الحق سبحانه، وما عليك إلا أنْ تضبط نفسك عليها، وتعمل لها ألف حساب. وعجيب أنْ يقسم الكفار يوم القيامة { مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ.. } [الروم: 55] فإنْ كذبوا في الدنيا، فهل يَكذْبون أيضاً في الآخرة؟ قالوا: بل يقولون ذلك على ظنهم، وإلا فالكلام منهم في هذا الوقت ليس اختيارياً، فقد مضى وقت الاختيار، ولم يَعُدْ الآن قادراً على الكذب. لذلك سيقول الحق سبحانه في آخر الآية: { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } [الروم: 55] فقد كانوا يقلبون الحقائق في الدنيا، أما في الآخرة فلن يقلبوا الحقائق، إنما يقولون على حَسْب نظرهم. والمجرمون: المجرم هو الذي خرج عن المطلوب منه بذنب يخالفه، فنقول: فلان أجرم، والقانون يُسمِّى الفعل جريمة. ومعنى { مَا لَبِثُواْ.. } [الروم: 55] اللبث: المكْث طويلاً أي في الدنيا، أو: ما لبثوا في قبورهم بعد الموت إلى قيام الساعة، أو: ما لبثوا بعد النفخة التي تميت إلى النفخة التي تُحيي. فهذه فترات ثلاث للبثهم في القبور، أطولها للذين ماتوا منذ آدم عليه السلام، ثم أوسطهم الذين جاءوا بعد ذلك أمثالنا، ثم أقلّهم لُبْثاً وهم الذين يموتون بين النفختين، وفي كل هذه الفترات يوجد كفار، وعلى عهد آدم كان هناك كفار، وعلى مَرِّ العصور بعده يُوجَد كفار، حتى بين النفختين يوجد كفار، إذن: فكلمة لبثوا هنا على عمومها: أطول، وطويل، وقصيرة، وأقصر.

السابقالتالي
2 3 4 5