الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ }

الحق - تبارك وتعالى - بعد أنْ عرض علينا بعض الأدلة في الكون من حولنا يقول لنا: ولماذا نذهب بعيداً إذا لم تكْفِ الآيات في الكون من حولك، فانظر في آيات نفسك، كما قال سبحانه:وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21] وجمع بين النوعين في قوله سبحانه:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ.. } [فصلت: 53]. فهنا يقول: تأمل في نفسك أنت: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ.. } [الروم: 54]، فإنْ قال الإنسان المكلف الآن: أنا لم أشاهد مرحلة الضعف التي خُلِقْتُ منها. نقول: نعم لم تشاهدها في نفسك، فلم تكُنْ لك ساعتها مشاهدة، لكن شاهدتها في غيرك، شاهدتها في الماء المهين الذي يتكوَّن منه الجنين، وفي الأم الحامل، وفي المرأة حين تضع وليدها صغيراً ضعيفاً، ليس له قَدَم تسعى، ولا يَدٌ تبطش، ولا سِنٌّ تقطع، ومع ذلك رُبي بعناية الله حتى صار إلى مرحلة القوة التي أنت فيها الآن. إذن: فدليل الضعف مشهود لكل إنسان، لا في ذاته، لكن في غيره، وفي مشاهداته كل يوم، وكل منا شاهد مئات الأطفال في مراحل النمو المختلفة، فالطفل يُولَد لا حولَ له ولا قوة، ثم يأخذ في النمو والكِبَر فيستطيع الجلوس، ثم الحَبْو، ثم المشي، إلى أنْ تكتمل أجهزته ويبلغ مرحلة الرشْد والفتوة. وعندها يُكلِّفه الحق - سبحانه وتعالى - وينبغي أنْ نكلفه نحن أيضاً، وأنْ نستغل فترة الشباب هذه في العمل المثمر، فنحن نرى الثمرة الناضجة إذا لم يقطفها صاحبها تسقط هي بين يديه، وكأنها تريد أنْ تؤدي مهمتها التي خلقها الله من أجلها. لذلك، فإن آفتنا نحن ومن أسباب تأخُّر مجتمعاتنا أننا نطيل عمر طفولة أبنائنا، فنعامل الشاب حتى سِنِّ الخامسة والعشرين على أنه طفل، ينبغي علينا أن نلبي كل رغباته لا ينقصنا إلا أنْ نرضعه. آفتنا أن لدينا حناناً مرق لا معنى له، أما في خارج بلادنا، فبمجرد أن يبلغ الشاب رُشَدْه لم يَعُدْ له حق على أبيه، بل ينتقل الحق لأبيه عليه، ويتحمل هو المسئولية. والحق سبحانه يُعلِّمنا في تربية الأبناء أنْ نُعوِّدهم تحمُّل المسئولية في هذه السِّنِّ:وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.. } [النور: 59]. فانظر أنت أيها الإنسان الذي جعلتَ كل الأجناس الأقوى منك في خدمتك، انظر في نفسك وما فيها من آيات وما بين جنبيك من مظاهر قدرة الله، فقد نشأتَ ضعيفاً لا تقدر على شيء يخدمك غيرك. ومن حكمته تعالى في الطفل ألاَّ تظهر أسنانه طوال فترة الرضاعة حتى لا يؤذي أمه، ثم تخرج له أسنان مؤقتة يسمونها الأسنان اللبنية لأنه ما يزال صغيراً لا يستطيع تنظيفها، فيجعلها الله مؤقتة إلى أن يكبر ويتمكَّن من تنظيفها، فتسقط ويخرج مكانها الأسنان الدائمة، ولو تأملتَ في نفسك لوجدتَ ما لا يُحصى من الآيات.

السابقالتالي
2 3