الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ }

يريد الحق سبحانه أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يألم لما يلاقيه من قومه، يقول له: يا محمد لا تُتعب نفسك لأن هؤلاء لا يؤمنوا، وما عليك إلا البلاغ، فلا تيأس لإعراض هؤلاء، ولا تتراجع عن تبليغ دعوتك والجهاد في سبيلها والجهر بها لأنني أرسلتك لمهمة، ولن أتخلى عنك، وما كان الله ليرسل رسولاً ثم يخذله أو يُسْلمه. وقد قال تعالى لنبيه:فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6] ولو أردتُ لجعلتُهم مؤمنين قَسراً لا يملكون أنْ يكفروا:إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 4]. إنما أريد أنْ يأتوني طواعية عن محبة، لا عن قهر لأنني لا أريد قوالبَ تخضع، إنما قلوباً تخشع، ويستطيع أيُّ بشر بجبروته أنْ يجعلَ الناس تخضع له أو تسجد، لكنه لا يستطيع مهما أُوتِي من قوة أنْ تُخْضِع قلوبهم، أو يحملهم على حُبِّه. وهنا يقول تعالى لنبيه: { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ.. } [الروم: 52] فجعلهم في حكم الأموات، وهم أحياء يُرْزَقون، لماذا؟ لأن الذي لا ينفعل لما يسمع ولا يتأثر به، هو والميت سواء. أو نقول: إن للإنسان حياتين: حياة الروح التي يستوي فيها المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وحياة المنهج والقيم، وهذه للمؤمن خاصة، والتي يقول الله فيها:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُفواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.. } [الأنفال: 24]. فهو سبحانه يخاطبهم هذا الخطاب وهم أحياء، لكن المراد هنا حياة المنهج والقيم، وهي الحياة التي تُورِثك نعيماً دائماً باقياً لا يزول، خالداً لا تتركه ولا يتركك. لذلك يقول سبحانه عن هذه الحياة:وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 64]. لذلك سمَّى الله المنهج الذي أنزله على رسوله روحاً:وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا.. } [الشورى: 52] لأن المنهج يعطيك حياة باقية لا تنزوي ولا تزول. وسمَّى الملَك الذي نزل به روحاً:نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193] فالمنهج روح من الله، نزل به روح من الملائكة هو جبريل عليه السلام على قلب سيدنا رسول الله ليحمله رسول مصطفى فيبثُّه في الناس جميعاً، فَيحيَوْن الحياة الآخرة. فالكفار بهذا المعنى يحيَوْن حياة روح القالب التي يستوي فيها جميع البشر، لكن هم أموات بالنسبة للروح الثانية، روح القيم والمنهج. لذلك، إذا كان عندنا شخص شقي أو بلطجي يفسد في المجتمع أكثر مما يصلح نقول له: أنت وجودك مثل عدمه، لماذا؟ لأن الحياة إذا لم تُستغل في النافع الدائم، فلا معنى لها. وهنا يقول تعالى لنبيه: لا تحزن، ولا تذهب نفسك على هؤلاء القوم الحسرات، فهم موتى لم يقبلوا روح المنهج وروح القيم، وما داموا لم تدخلهم هذه الروح، فلا أملَ في إصلاحهم، ولن يستجيبوا لك، فالاستجابة تأتي ممن أصغى سمعه، وأعمل عقله في الكون من حوله ليصل إلى حقيقة الحياة ولغز الوجود.

السابقالتالي
2 3