الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

هذه نِعَم خمس من نِعَم الله على عباده. فإرسال الرياح وحدها نعمة، وتبشيرها بالمطر نعمة، وإجراء الفُلْك نعمة، والابتغاء من فضل الله نعمة، ثم الشُّكْر على هذا كله نعمة أخرى. والآيات: جمع آية، وهي كما قلنا: الشيء العجيب الذي يجب أنْ يلفت الأنظار، وألاَّ يغفل الإنسان عنه طرفة عَيْن، ومن ذلك قولنا: فلان آية في الفصاحة، أو آية في الجمال.. إلخ. وتُطلق الآيات ويراد بها معَان ثلاثة: آيات كونية تلفت إلى المكوِّن سبحانه، وتثبت قدرة الخالق.وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ.. } [فصلت: 37]. وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل لتثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله، ثم الآيات التي تحمل الشرع والأحكام، وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج الله. وهنا يتكلم الحق سبحانه عن الآيات الكونية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ.. } [الروم: 46] كلمة الرياح جمع ريح، والرياح هنا بالمعنى العام: الهواء، وهو أنواع: هواء ساكنإِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ.. } [الشورى: 33]. والهواء الساكن يضايق الإنسان، حيث يُصعِّب عليه عملية التنفس، فيجلب الهواء لنفسه إما بيده أو بمروحة. لماذا؟ ليجدد الأكسوجين في الهواء المحيط به فيستطيع التنفس، والهواء يأتي مرة ساخناً يلفح الوجوه، ومرة نسيماً رطباً مُنعِشاً عليلاً، ويأتي عاصفاً مدمراً.. الخ. والحق سبحانه - كما سبق أنْ بينَّا - رتَّب مقومات حياة الخليقة في الأرض على: الهواء، ثم الماء، ثم الطعام على هذا الترتيب، وحَسْب أهمية هذه المقومات. فالهواء هو أهم مُقوِّم في حياة الكائن الحي، حيث لا يصبر عليه الإنسان إلا لحظة بمقدار شهيق وزفير ولو حُبس عنه لمات. ثم الماء ويصبر عليه الإنسان إلى عشرة أيام. ثم الطعام ويصبر عليه إلى شهر. لذلك من حكمة الخالق سبحانه ألاَّ يُملِّك الهواء لأحد، ولو ملكه أحد وغضب عليك لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك، أما الماء فقليل أنْ يُملكه للناس، أما الطعام فكثيراً ما يملك لأن الإنسان يصبر عليه فترة طويلة تُمكِّنه أن يكتسبه، ويحتال عليه، أو لعل مالكَ الطعام يرقُّ قلبه ويعطيك. لذلك نسمع من عبارات التهديد: والله لأكتم أنفاسه، كأن هذه العملية هي أقسى ما يمكن فِعْله لأنك قد تمنع عنه الماء أو الطعام ولا يموت، لكن إنْ منعتَ عنه الهواء فهي نهايته، وهي أسرع وسائل الإبادة للإنسان وأيسرها وأقلّها أثراً، فلا يترتب عليها دم ولا جروح مجرد منديل مبلل بالماء. إذن: الهواء مُقوِّم هام حياة وإماتة. وقلنا: إذا حُبِس الهواء أو سكن لا يتجدد فيه الأكسوجين فيتضايق الإنسان لأن أنفاسه تكتم، أما إذا حدثت في المكان رائحة كريهة فترى الجميع يضج: افتحوا النوافذ، لماذا؟ ليتجدد الهواء.

السابقالتالي
2