الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ }

السير: الانتقال من حيز مكاني إلى حيز آخر، وسبق أنْ قلنا: إن النظرة السطحية في ظاهر الأمر أن السير يكون على الأرض لا فيها لأننا نسكن على الأرض لا فيها، لكن الحق سبحانه يُبصرنا بقوله: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ.. } [الروم: 42] أن الأرض ليست هي اليابسة والماء على سطح الكرة الأرضية، أما الأرض فتشمل غلافها الجوي لذلك يدور معها وهو إكسير الحياة فيها فلا حياة لها إلا به. إذن: فهواء الأرض من الأرض، وهو أهم الأقوات للأحياء عليها، فحين يقول تعالى:وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا.. } [فصلت: 10] فالهواء داخل فيها، لذلك قال { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ.. } [الروم: 42]. وقلنا: لو أنك استقرأتَ أجناس الوجود لوجدت أنك الجنس الأعلى في الكون، وكل الأجناس تحتك تخدمك، فأنت تنتفع بالحيوان وبالنبات وبالجماد، فأدنى الأجناس في الكون وهو الجماد له مهمة يؤديها. فأنت أيها الإنسان الذي كرَّمك الله على كل أجناس الوجود إذا لم تبحث لك عن مهمة تؤديها في الحياة، ودور تقوم به، فأنت أقل منزلةً من أدنى الأجناس وهو الجماد، إذا لم تبحث بعقلك عن شيء ترتبط به يناسب سيادتك على مَنْ دونك، فأنت أتفه من الحجر لأن الحجر له مهمة يؤديها، وأنت لا مهمةَ لك. لكن هذا الجنس الأدنى إنْ أراد سبحانه أعطاه عزة فوق السيد المخدوم وهو الإنسان، ففي فَرْض الحج يُسَنُّ لك أن تُقبِّل هذا الحجر، وتسعى جاهداً لكي تُقبِّله، وتأمل الإنسان - وهو سيد هذا الوجود - وهو يحاول أنْ يُقبِّل الحجر، ويغضب إنْ لم يتمكن من ذلك. وتأمل الردَّ من دولة الأحجار على مَنْ عبدها من دون الله:
عَبَدُونَا ونَحْنُ أعبَدُ لله   منَ القائمين بالأسْحارِ
تَخِذُوا صَمْتنَا عَليْنَا دَليلاً   فَغدوْنَا لَهُم وقُودَ النارِ
قَدْ تجنَّوا جَهْلاً كما قَدْ تجنَّوْه   علَى ابْن مريم والحَوارِيَ
للمغَالِي جَزَاؤه والمغَالَى فيهِ   تُنجِيهِ رَحْمةُ الغفَّارِ
ثم يقول سبحانه: { فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ.. } [الروم: 42] فالسير في الأرض يكون إما للسياحة والتأمل في آيات الله في كونه، لذلك يستخدم فيها الفاء { فَٱنْظُرُواْ.. } [الروم: 42] أو يسير في الأرض لطلب الرزق. وفي آية أخرى:قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ.. } [الأنعام: 11] والمعنى: سيروا في الأرض للاستثمار، وطلب القوت، وقضاء المصالح، لكن لا يفوتكم النظر والتأمل في آيات الله وفي مخلوقاته لتأخذوا منها العبرة والعظة. ومعنى: { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ.. } [الروم: 42] أي الذين ظهر الفساد بينهم، فأذاقهم الله الألم بما كسبتْ أيديهم، فهذه ليست عندك وحدك، إنما حدثتْ في الأمم السابقة، كما قال سبحانه:وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [الصافات: 137]. فهناك مدائن صالح والأحقاف وعاد وثمود والفراعنة.

السابقالتالي
2