الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

يبسط: يُوسِّع، ويقدِر: يعني يُضيِّق. يعني: ألم يروا هذه المسألة، فواحد يُوسِّع الله عليه الرزق، وآخر يُضيِّق عليه، وربما صاحب السعة لم يتعب فيها، إنما جاءته من ميراث أو خلافة، وصاحب الضيق يكدّ ويتعب، ومع ذلك فعيشته كفاف، لذلك استقبل الفلاسفة هذه المسألة بما في ضمائرهم من إيمان أو إلحاد، فهذا ابن الراوندي الملحد يقول:
كَمْ عَالمٍ أعْيَتْ مَذَاهِبه   وجَاهلٍ جَاهلٍ تَلْقَاهُ مرْزُوقا
هَذَا الذِي تركَ الأوهامَ حَائرةً   وَصيَّر العَالِم النَّحْرير زِنْدِيقا
فردَّ عليه آخر ممن امتلأت قلوبهم بالإيمان:
كَمْ عَالمٍ قَدْ باتَ في عُسْرٍ   وجَاهلٍ جاهلٍ قَدْ باتَ في يُسْر
تحيَّر الناسُ في هَذا فقُلْتُ لهم   هَذا الذي أوجبَ الإيمان بالقدرِ
فالعالم لا يسير بحركة ميكانيكية ثابتة، إنما بقيومية الخالق سبحانه عليه، فانظر إلى البسط لمن بسط الله له، والقبض لمن قبض الله عنه، ولا تعزل الفعل عن فاعله سبحانه، وتأمل أن الله تعالى واحد، وأن عباده عنده سواء، ومع ذلك يُوسِّع على أحدهم ويُضيِّق على الآخر. إذن: لا بُدَّ أن في هذه حكمة، وفي تلك حكمة أخرى، ولو تتبعتَ عواقب السعة هنا والتضييق هناك لتراءتْ لك الحكمة. ألا ترى صاحب سعة ورزق ونعم كثيرة، ومع ذلك لم يستطع تربية أولاده لأن مظاهر الترف جرفتهم إلى الانحراف، ففشلوا في حياتهم العملية، وفي المقابل نرى الفقير الذي يعيش على الكفاف يتفوق أولاده، ويأخذون أعلى المراتب؟ إذن: { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ.. } [الروم: 37] وفق حكمة يعلمها سبحانه وتعالى. وسبق أن ذكرنا أن في ألمانيا مدرستين فلسفيتين في الإلحاد، إحداهما لواحد اسمه جيبل، والأخرى لـ بختر أحدهما: ينكر أن يكون للعالم إله، يقول: لو كان للعالم إله حكيم ما خلق الأعمى والأعرج والأعور.. الخ فالحكمة في الخَلْق تقتضي المساواة، فأخذ من الشذوذ في الخَلْق دليلاً على إلحاده. أما الآخر فقال: ليس للكون إله، إنما يسير سَيْراً ميكانيكياً رتيباً، ولو كان فيه إله لكان يخلق الخَلْق على صور مختلفة، وتكون له إرادة مطلقة عن الميكانيكا، فأخذ ثبات النظام دليلاً على إلحاده ليناقض مذهب سابقه. إذن: المسألة عندهم رغبة في الإلحاد بأيِّ شكل، وعلى أية صورة، واستخدام منهج مُعْوج يخدم القضية التي يسعون إلى إثباتها. ونقول في الرد على الأول الذي اتخذ من الشذوذ في الكون دليلاً على عدم وجود إله حكيم: الشذوذ الذي ذكرتَ شذوذ في الأفراد الذين يُعوض بعضهم عن بعض، فواحد أعمى، وآخر أعور يقابلهم ملايين المبصرين، فوجود هذه النسبة الضئيلة لا تفسد القاعدة العامة في الخَلْق، ولا تؤثر على حركة البشر في الكون فالصحيح يعوض غير الصحيح. أما النظام الثابت الذي يريده الثاني فعليه أن ينظر إلى الملأ الأعلى، وفي الكون الأعلى من شمس وقمر ونجوم.

السابقالتالي
2