الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }

يتبادر إلى الذهن أن اللام في { لِيَكْفُرُواْ.. } [الروم: 34] لام التعليل، أو لام السببية التي يكون ما بعدها سبباً لما قبلها، كما تقول: ذاكر لتنجح، وكذلك في الشرط والجواب: إنْ تذاكر تنجح فِعِلَّة المذاكرة النجاح. فهل يستقيم المعنى هنا على هذا الفهم؟ وهل نجاهم الله وأذاقهم الرحمة ليكفروا به؟ نقول: ليس الشرط سبباً في مجيء الجواب كما يفهم السطحيون في اللغة، بل الجواب هو السبب في الشرط، لكنهم لم يُفرِّقوا بين سبب دافع وسبب واقع، فالتلميذ يذاكر لأن النجاح ورد بباله، وتراءتْ له آثاره الطيبة أولاً فدفعتْه للمذاكرة. إذن: فالجواب سبب في الشرط أي: سبب دافع إليه، فإذا أردتَ أن يكون واقعاً فقدِّم الشرط ليجيء الجواب. وكما تقول: ركبتُ السيارة لأذهب إلى الأسكندرية، فركوب السيارة ليس سبب ذهابك للأسكندرية، لأنك أردْتَ أولاً الذهاب فركبتَ السيارة، فلما ركبتها وصلتَ بالفعل. إذن: نقول: الشرط سبب للجواب دافعاً يدفع إليه، والجواب سبب للشرط واقعاً. فهنا نجّاهم الله من الكرب، وأذاقهم رحمته لا ليكفروا به، إنما ليُبيِّن لهم أنه لا مفزعَ لهم إلا إليه، فيتمسكون به سبحانه، فيؤمن منهم الكافر، ويزداد مؤمنهم إيماناً، لكن جاء ردُّ الفعل منهم على خلاف ذلك، لقد كفروا بالله لذلك يسمون هذه اللام لام العاقبة أي: أن كفرهم عاقبة النجاة والرحمة. ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - لو ضممتَ طفلاً مسكيناً إلى حضانتك وربَّيته أحسن تربية، فلما شبَّ وكَبِر تنكّر لك، واعتدى عليك، فقلت للناس: ربَّيته ليعتدي عليَّ، والمعنى: ربَّيته ليحترمني ويحبني، لكن جاءت النتيجة والعاقبة خلاف ذلك، وهذا يدل على فساد التقدير عند الفاعل الذي ربَّى، وعلى لُؤْم وفساد طبع الذي رُبِّي. فالأسلوب هنا { لِيَكْفُرُواْ.. } [الروم: 34] يحمل معنى التقريع لأن ما بعد لام العاقبة ليس هو العلة الحقيقية لما قبلها، إنما العلة الحقيقية لما قبلها هو المقابل لما بعد اللام: أذاقهم الرحمة، ونجاهم ليؤمنوا، أو ليزدادوا إيماناً، فما كان منهم إلا أنْ كفروا. ولهذه المسألة نظائر كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في قصة موسى:فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً.. } [القصص: 8]. ومعلوم أنهم التقطوه ليكون لهم قُرَّة عين، ولو كانوا يعلمون هذه العاقبة لأغرقوه أو قتلوه كما قتلوا غيره من أطفال بني إسرائيل، وكما يقولون في الأمثال بيربي خنَّاقه. فهذا دليل على غفلة الملتقِط، وعلى غبائه أيضاً، فكيف وهو يُقتِّل الأولاد في هذا الوقت بالذات لا يشكّ في ولد جاء في تابوت مُلْقىً في البحر؟ أليس في هذا دلالة على أن أهله يريدون نجاته من القتل؟ لكن كما قال سبحانه:وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.. }

السابقالتالي
2 3