الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }

الكلام هنا عن بَدْء الخلق، قال تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ.. } [الروم: 20] بصيغة الجمع، والمراد آدم ثم حواء، ثم بثَّ الله منهما رجالاً كثيراً ونساء، فالعالم اليوم الذي يُعَدُّ بالمليارات حين تعود به إلى الماضي لا بُدَّ أنْ تعود إلى اثنين هما آدم وحواء، فلما التقيا نشأ منهما النسل، لكن هل نشأ النسل من أبعاض ميتة خرجتْ من آدم، أم من أبعاض حيّة هي الحيوانات المنوية؟ لو أن الحيوان المنويَّ كان ميتاً لما حدث الإنجاب. إذن: جاء أولاد آدم من ميكروب أبيهم آدم، وانتشروا في الأرض وأنجبوا، وكل منهم يحمل ذرة من أبيه الأول آدم عليه السلام. وبالتالي فكُلٌّ مِنّا فيه ذرة حية من عهد آدم، وحتى الآن لم يطرأ عليها فناء أبداً، وهذا هو عَالَم الذَّرِّ الذي شهد خَلْق الله لآدم، إنها أبعاضنا التي شهدتْ هذا العهد الأول بين الخَلْق والخالق سبحانه:وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 172]. إذن: في كل مِنّا الآن وحتى قيام الساعة ذرةٌ حيَّة من أبيه آدم، هذه الذرة الحية هي التي شهدتْ هذا العهد، وهي التي تمثل الفطرة الإيمانية في كل نفس بشرية، لكن هذه الفطرة قد تُطمس أو تُغلَّف بالغفلة والمعاصي.. إلخ. والحق - سبحانه وتعالى - أخبرنا أنه يخلق الأشياء ويُوجِدها بكُنْإِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] إلا الإنسان، فقد بلغ من تكريمه أنْ سوَّاه ربه بيده، وجعله خليفة له في الأرض، وتجلَّى عليه بصفات من صِفاته، فأعطاه من قدرته قدرةً، ومن عِلْمه عِلْماً، ومن حكمته حكمة، ومن غِنَاه غِنىً. وربنا سبحانه حينما يخلقنا هذا الخَلْق يريد مِنَّا أنْ نستعمل هذه الصفات التي وهبها لنا، كما يستعملها هو سبحانه، فالله تعالى بقدرته خلق لنا ما ينفعنا، فعليك أنت بما وهبك الله من القدرة أنْ تعمل ما ينفع، والله بحكمته رتَّبَ الأشياء، فعليك بما لديْك من حكمة أنْ تُرتَّب الأِشياء.. وهكذا. ونشير إلى أن القدرة تختلف، فقدرة تفعل لك، وقدرة عُلْيا تجعلك تفعل بنفسك، هَبْ أنك قابلتَ رجلاً ضعيفاً لا يَقْوَى على حَمْل متاعه مثلاً، فتحمله أنت له، فأنت إذن عدَّيْتَ إليه أثرَ قوتك، إنما ظلَّ هو ضعيفاً. أما الحق - تبارك وتعالى - فلا يُعدِّي أثر قوته إلى عبده فحسب، إنما يُعدِّي له القدرة ذاتها، فيُقوِّي الضعيف فيحمل متاعه بنفسه. إذن: أعظم تكريم للإنسان أنْ يقول الخالق سبحانه: إنني خلقتُه بيدي في قوله سبحانه لإبليس:قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.. }

السابقالتالي
2 3 4