الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ }

فكأن ما تقدم من حيثيات الاصطفاء الأول، والاصطفاء الثاني، يستحق منها القنوت، أي العبادة الخالصة الخاضعة الخاشعة. وقد يقول قائل: ولماذا يصطفى الله واحداً، ليشيع اصطفاؤه في الناس؟ لأن الاصطفاء من الحق لا بد أن يبرئه من كل ما يمكن أن يقع فيه نظيره من الاختيارات غير المرضية، والحق - سبحانه - يريده نموذجاً لا يقع منه إلا الخير، والمثال الكامل على ذلك اصطفاء الحق سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من أول الأمر وجعله لا يفعل إلا السلوك الطيب من أول الأمر، وذلك حتى يعطينا الرسول القدوة الإيمانية في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة المحمدية. والحق يقول لمريم على لسان الملائكة: { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ } [آل عمران: 43] إنه أمر بالعبادة الخاشعة المستديمة لربها، وكلمة " لربك " تعني التربية، فكأن الاصطفاءات هي من نعم الله عليك يا مريم، وتستحق منك القنوت { وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [آل عمران: 43] و " اسجدي " أي بَالِغِي في الخشوع، والخضوع، بوضع الجبهة التي هي أشرف شيء في الإنسان على الأرض، لأن السجود هو أعلى مرتبة من الخضوع. لكن أيعفيها هذا اللون من الخضوع مما يكون من الركوع لله مع الناس؟ لا، إنه الأمر الحق يصدر لمريم { وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [آل عمران: 43] ولا يعفيك من الركوع أنك فعلت الأمر الأعلى منه في الخضوع وهو السجود، بل عليك أن تركعي مع الراكعين، فلا يحق لك يا مريم أن تقولي: " لقد أمرني الله بأمر أعلى ولم أنفذ الأمر الأدنى ". إن الحق يأمرها أن تكون أيضاً في ركب الراكعين مثلما نقرأ قوله الحق عن الكفار:مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } [المدثر: 42-43]. إنهم كفار، فكيف يصلون؟ إنه اعتراف منهم بأنهم كفار، ولم يكونوا مسلوكين في سلك من يصلي، واعتراف بانهم لم يكونوا مسلمين أو مؤمنين بالله. وهنا يسأل سائل كريم: لماذا قال سبحانه وتعالى في خطابه لمريم: { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [آل عمران: 43] ولم يقل الحق: " مع الراكعات "؟ هذا هو السؤال. وإجابة على هذا السؤال نحب أن نمهد تمهيداً بسيطاً إلى فلسفة الأسماء في وضعها على مسمياتها. إن الأسماء ألفاظ من اللغة تعين مسماها. والمسميات مختلفة، فمنها الجماد، ومنها النبات ومنها الحيوان، ومنها الأسماء التي تدل على عالم الغيب كالجن، والملائكة، وكل ما غيب الله. هذه الأسماء تدل على معانيها. وهدى الله سبحانه البشر إليها بما علم آدم من الأسماء، فكيف كان باستطاعة آدم التعبير عن معطيات الأسماء بمسمياتها؟ إذن لا بد أن يوجد لكل شيء اسم حتى نستطيع حين نتفاهم على الشيء أو الكائن بأن نذكر لفظاً واحداً موجزاً يشير إليه.

السابقالتالي
2 3 4