الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ }

إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضاً لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم. لذلك قال سبحانه: { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } [آل عمران: 3] و " نزل " تفيد شيئاً قد وجب عليك لأن النزول معناه: شيء من أعلى ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك لأنها ليست من مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك. لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة، فقال: { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } [آل عمران: 3]. وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول:نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193]. ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم:وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [الإسراء: 105]. ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه " نزل " ، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحق سبحانه وتعالى يقول:وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [الإسراء: 105]. وبذلك تتساوى " أنزل " مع " نزل ". وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين عاماً وينزل القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول:إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1]. والحق هنا يحدد زمناً. ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاماً هو الذي أنزله الله في ليلة القدر. إذن فللقرآن نزولان اثنان: الأول: إنزال من " أنزل ". الآخر: تنزيل من " نَزَّل ". إذن فالمقصود من قوله - سبحانه -:إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر. والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجماً على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعاً أو إيضاحاً لأمر. لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولاً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.

السابقالتالي
2