الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

وما زال الحديث والكلام عن البطانة، وهو يدل على أن البطانة لم تستطع أن تلوي المؤمنين عن الإيمان، بل إن المؤمنين الذين ذاقوا حلاوة الإيمان حاولوا أن يغيروا من الكافرين. ولم يفلح الكافرون أن يغيروا من المؤمنين، وكذلك لم يفلح الكافرون أيضاً أن يسيطروا على أنفسهم، ولم يكن أمام هؤلاء الكافرين إلا النفاق، لذلك قالوا: " آمنا ". إن الآية تدلنا على أن المؤمنون قد عقلوا آيات الحق. ولماذا - إذن - جاء الحق بقوله: " تحبونهم ولا يحبونكم "؟ لقد أحب المؤمنون الكافرين حين شرحوا لهم قضية الحق في منهج الإسلام، وأرادوا المؤمنون أن يجنبوا الكافرين متاعب الكفر في الدنيا والآخرة، وهذا هو الحب الحقيقي، فهل بَادَلَهُم الكافرون الحب؟ لا لأن هؤلاء الكافرون أرادو أخذ المؤمنين إلى الكفر، وهذا دليل عدم المودة. ولم يستطع الكافرون تحقيق هذا المأرب، ولذلك قالوا: " آمنا " ومعنى قولهم: " آمنا " يدلنا على أن موقف المسلمين كان موقفاً صُلبا قوياً لذلك لم يجد الكافرون بداً من نفاقهم { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا } [آل عمران: 119] قالوا ذلك على الرغم من ظهور البغضاء في أفواههم، ولم يكن سلوكهم مطابقاً لما يقولون. وهنا بدأ المسلمون في تحجيم وتقليل مودتهم للكافرين ولذلك قال أهل الكفر: لو استمر الأمر هكذا فسوف يتركنا هؤلاء المسلمون.. وحتى يتجنبوا هذا الموقف ادعوا الإيمان في الظاهر، وينقلب موقفهم إذا خلوا لأنفسهم، ويصور الحق هذا الموقف في قوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ } [آل عمران: 119] فما هو العض؟ إن العضَّ لغوياً، هو التقاء الفكين على شيء ليقضماه. وما الأنامل؟ إنها أطراف الأصابع، والأنامل فيها شيء من الدقة وشيء من خفة الحركة المأخوذة من خلية النمل، ويسمون الأنامل أيضاً البنان، وعملية عض الأنامل عندما نراها نجدها عملية انفعالية قسرية. أي أن الفكر لا يرتبها فليس هناك من يرضى أن يظل مرتكباً لعملية عض أصابعه، فعض الأصبع يسبب الألم، لكن الامتلاء بالغيظ يدفع الإنسان إلى عض الأصابع كمسألة قسرية نتيجة اضطراب وخلل في الانفعال. ومن أين يجيء الغيظ؟. لقد جاء الغيظ إلى الكافرين لأنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوا المؤمنين قيد شعرة عن منهج الله، بل حدث ما هو العكس، لقد حاول المؤمنون أن يجذبوا الكافرين إلى نور الإيمان، وكان الكافرون يريدون أن يصنعوا من أنفسهم بطانة يدخلون منها إلى المؤمنين لينشروا مفاسدهم ولذلك وقعوا في الغيظ عندما لم يمكنهم المؤمنون من شيء من مرادهم. إن الإنسان يقع أحياناً فريسة للغيظ حين لا يتمكن من إعلان غضبه على خصمه ولهذا إذا أراد إنسان من أهل الإيمان أن يواجه حسد واحد من خصومه فعليه أن يزيد في فضله على هذا الإنسان، وهنا يزداد هذا الخصم غيظاً ومرارة، أيضاً نجد أن من تعاليم الإسلام أن الإنسان المؤمن لا يقابل السيئة التي يصنعها فيه آخر بسيئة، وذلك حتى لا يرتكب الذنب نفسه، ولكن يتَبع القول المأثور: " إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه ".

السابقالتالي
2 3 4 5