الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

إن الحق يصف ما ينفقه هؤلاء الكافرون في أثناء الحياة الدنيا وهم بعيدون عن منهج الله إنه - سبحانه - يشبهه بريح فيها صر، أي شدة، فمادة " الصاد والراء " تدل على الشدة والضجة والصخب، ومثال ذلك ما قاله الحق عن امرأة إبراهيم:فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [الذاريات: 29]. إنها أتت وجاءت بضجيج لأنها عجوز وعقيم ويستحيل عادة أن تلد. ومثل قوله الحق:وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [الحاقة: 6]. والريح الصرصر هي التي تحمل الصقيع ولها صوت مسموع. وقوله الحق: { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } [آل عمران: 117] أي أن الريح جعلت البرد شائعاً وشديداً، فالبرد قد يكون في منطقة لا ريح فيها، ويظل باقياً في منطقته تلك، وعندما تأتي الريح فإنها تنقل هذا البرد من مكان إلى مكان آخر، فتتسع دائرة الضرر به. وماذا تفعل الريح التي فيها شِدة برد؟ إنها تفعل الكوارث، ويقول عنها الحق: { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } [آل عمران: 117] وساعة نسمع كلمة " حرث " فنحن نعرف أنه الزرع، وقد سماه الله حرثاً، ليعرف الإنسان إنه إن لم يحرث فلن يحصد، يقول الحق:أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [الواقعة: 63-65]. كأن الريح العارمة تفسد الحرث، وهو العملية اللازمة للإنبات فالحرث إثارة للأرض، أي جعل الأرض هشة لتنمو فيها الجذور البسيطة، وتقوى على اختراقها، وأخذ الغذاء منها، وهذه الجذور تستطيع - أيضاً - من خلال هشاشة الأرض المحروثة أن تأخذ الهواء اللازم للإنبات. إن الحق سبحانه يريد أن يضرب لنا المثل وهو عن جماعة غير مؤمنين أنفقوا أموالهم في الخير، لكن ذلك لا ينفعهم ولا جدوى منه. مصداقاً لقوله تعالى: { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [آل عمران: 117] وهكذا يكون مصير الإنفاق على نية غير مؤمنة، كهيئة الحرث الذي هبت عليه ريح فيها صوت شديد مصحوب ببرد، فالـ " صر " فيه الشدة والبرودة والعنف، وحاتم الطائي كريم العرب يقول لعبده:
أوقد فإن الليل ليل قر   والريح يا غلام ريح صر
عَلَّ يرى نارك من يمر   إن جلبت ضيفاً فأنت حر
إن هذا الرجل الكريم يطلق سراح العبد إذا ما هدى ضيفاً إلى منزل حاتم الطائي. " والليل القر ": هو الليل الشديد البرودة. و " الريح الصر ": هي الريح الشديدة المصحوبة بالبرد. ونعرف في قُرَانَا أن الصقيع ينزل على بعض المزروعات، فيتلفها. ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه قد جاء بهذه الآية الكريمة بعد أن أوضح لنا في الآية السابقة عليها أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً ومصيرهم النار، وهو سبحانه يدفع أي شبهة تطرأ على السامع، وهي أن هذه الأموال التي أنفقها الكافرون لعمل الخير، لن تغني عنهم شيئاً في الآخرة لأنهم لا يملكونها.

السابقالتالي
2 3 4