الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }

ونحن نستخدم كلمة " ضرب " في النقود، عندما نقول: ضرب هذا الجنيه في مصر، ومعنى ذلك أن الصانع يقوم بصنع قالب من مادة أكثر صلابة، من المادة التي يصنع منها النقد ويرسم فيها الحفريات التي تبزر الكتاب والصور على وجهي الجنيه، ثم يصب المادة في ذلك القالَب، وتخضع للقالب فتبرز الكتابة والصور، ولا تتأبى المادة على القالب. كأن " ضُرب " معناها " أُلزم " بالبناء للمجهول فيهما، وكأن المادة المصنوعة تَلْزَمُ القالبَ الذي تصب فيه ولا تتأبى عليه ولا يمكن أن تتشكل إلاّ به. إذن فالضرب معناه الإلزام والقسر على الفعل. وعندما يقول الحق: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ } [آل عمران: 112] أي لزمتهم الذلة لا يستطيعون الانفكاك عنها أبداً، كما لا يستطيع المعدن المضروب نقدا أن ينفك عن القالب الذي صك عليه، وكأن الذلة قبة ضربت عليهم، وقالب لهم، وقول الحق: { أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ } [آل عمران: 112] تفيد أنهم أذلاء أينما وُجدوا في أي مكان. ولكن هناك استثناء لذلك، ما هو؟ إنه قول الحق: { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ } [آل عمران: 112] إنهم لا يعانون من الذلة في حالة وجود عهدٍ من الله أو عهد من أناس أقوياء أن يقدموا لهم الحماية: فلما كانوا في عهد الله أولاً وعهد رسوله ساعة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأعطاهم العهد، فكانوا آمنين، ولما خانوا العهد، ولم يُوفوا به ماذا حدث؟ ضُربت عليهم الذلة مرة أخرى. إذن لقد كانوا في عهد الله آمنين لكنهم خانوا العهد، وانقطع حبل الله عنهم، فهيجوا الهيجة التي عرفناها ونزل بهم ما نزل، وهو ما حدث لبني قينقاع ولبني النضير وبني قريظة ويهود خبير. إذن فهم قبل ذلك كانوا في عهد مع الله. وأنتم تعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما نزل المدينة بني المسجد وعقد العهد بينه وبين اليهود وعاشوا في اطمئنان إلى أن خانوا العهد، فضربت عليهم الذلة. وطُردوا من المدينة، كما يقول الحق: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ } [آل عمران: 112]. لقد أخذوا العهد من الله من خلال من له الولاية على الناس، فالرسول في عهده كان قائماً على أمر المسلمين، وكذلك يكون الأمر معهم في ظل القائمين على أمر الإسلام، ويحدث هذا عندما تسير الأمور بمنهج الإسلام. أما عن حبل الناس فذلك لأنهم لا يملكون أي عزة ذاتية، إنهم دائماً في ذلة إلا أن يبتغوا العزة من جانب عهد وحبل من الله، أو من جانب حماية من الناس. ونحن نراهم على هذا الحال في حياتنا المعاصرة، لا بد لهم من العيش في كنف أحد لذلك فعندما حاربنا " إسرائيل " في حرب أكتوبر، انتصرنا عليهم إلى أن تدخلت أمريكا بثقلها العسكري.

السابقالتالي
2 3