الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ }

وكلمة { جَاهَدَ.. } [العنكبوت: 6] تناسب النجاح في الابتلاء، والجهاد: بذْل الجهد في إنفاذ المراد، ومنه اجتهد فلان في كذا يعني: عمل أقصى ما في وُسْعه من الجدِّ والاجتهاد في أن يستنبط الحكم. والجهاد له مجالان: مجال في النفس يجاهدها ليقْوَى بمجاهدة نفسه على مجاهدة عدوه. وجاهد: مفاعلة، كأن الشيء الذي تريده صعب، يحتاج إلى جهد منك ومحاولة، والمفاعلة تكون من الجانبين: منك ومن الشيء الذي يقابلك، وأول ميادين الجهاد النفس البشرية لأن ربك خلق فيك غرائز وعواطف لمهمة تؤديها، ثم يأتي منهج السماء ليكبح هذه الغرائز ويُرقِّيها، حتى لا تنطق معها إلى ما لا يُباح. فحب الاستطلاع مثلاً غريزة محمودة في البحث العلمي والاكتشافات النافعة، أمّا إنْ تحوّل إلى تجسُّس وتتبع لعورات الناس فهو حرام الأكل والشرب غريزة لتقتات به، وتتولد عندك القدرة على العمل، فإنْ تحوَّل إلى نهم وشراهة فقد خرجت بالغريزة عن مرادها والهدف منها. وعجيب أمر الناس في تناول الطعام، فالسيارة مثلاً لا نعطيها خليطاً من الوقود، إنما هو نوع واحد، أما الإنسان فلا تكفيه عدة أصناف، كل منها لها تفاعل في الجسم، حينما تتجمع هذه التفاعلات تضر أكثر مما تنفع. إذن: هذه الغرائز تحتاج منك إلى مجاهدة لتظل في حَدِّ الاعتدال، عملاً بالأثر: " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، ولا نشرب حتى نظمأ، وإذا شربنا لا نقنع ". ولو عملنا بهذا الحديث لَقضيْنا على القنبلة الذرية للاقتصاد في بلادنا، وكم تحلو لك اللقمة بعد الجوع مهما كانت بسيطة وغير مكلِّفة لذلك يقولون: نعم الإدام الجوع، ثم إذا أكلتَ لا تملأ المعدة، ودع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه ". وبهذا المنهج الغذائي الحكيم نضمن بنية سليمة وعافية لا يخالطها مرض. فالغرائز خلقها الله فيك لمهمة، فعليك أنْ تقف بها عند مهمتك. ومثل الغرائز العواطف من حب وكُرْه وشفقه وحُزْن.. إلخ، وهذه ليس لها قانون إلا أنْ تقفَ بها عند حدود العاطفة لا تتعداها إلى النزوع، فأحبب مَنْ شئتَ وأبغض مَنْ شئتَ، لكن لا تتعدَّ ولا تُرتِّب على العاطفة حكماً. وقد ذكرنا لهذه المسألة مثالاً بسيدنا عمر - رضي الله عنه - وكان له أخٌ اسمه زيد قُتل، ثم أسلم قاتله، فكان عمر كلما رآه يقول له: ازْوِ عني وجهك - يعني: أنا لا أحبك - فيقول: أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ قال: لا، قال: إنما يبكي على الحب النساء. يعني: الحب والكره مسائل يهتم بها النساء، والمهم العمل، وما يترتب على هذه العواطف.

السابقالتالي
2 3 4 5