الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ }

هذه في مقابل:وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ.. } [العنكبوت: 54-55] وذكر المقابل لزيادة النكاية بالكافرين، كما يقول سبحانه:إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13-14]. فجَمْع المتقابلين يزيد من فَرْحة المؤمن، ويزيد من حَسْرة الكافر. ومعنى { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً.. } [العنكبوت: 58] أي: نُنزلهم ونُمكِّنهم منها، كما جاء في قوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ.. } [آل عمران: 121] يعني: تُنزِلهم أماكنهم. والجنة تُطلق على الأرض ذات الخضرة والأشجار والأزهار في الدنيا، كما جاء في قوله سبحانه:أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ.. } [البقرة: 266]. وقوله سبحانه:إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ.. } [القلم: 17]. وقوله سبحانه:وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ.. } [الكهف: 32]. فإذا كانت جنة الدنيا على هذه الصورة من الخِصْب والنماء والجمال، وفيها أسباب القُوت والترف، إذا كان ذلك في دنيا الأسباب التي نراها، فما بالك بما أعدَّه الله لخَلْقه في الآخرة؟ ومن عجائب الجنة أنها { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ.. } [العنكبوت: 58] ونحن نعرف أن أنهار الدنيا تجري خلالها عبر الشُّطآن التي تحجز الماء، أمّا في الجنة فتجري أنهارها بلا شُطآن. لذلك لما كنا نسافر إلى بلاد المدنية والتقدّم، ونرى زخارف الحياة وترفها كنتُ أقول لمن معي: خذوا من هذا النعيم عِظَة، فهو ما أعدَّه البشر للبشر، فما بالكم بما أعدَّه ربُّ البشر للبشر؟ فإذا رأيتَ نعيماً عند أحد فلا تحقد عليه، بل ازْدَدْ به يقيناً في الله تعالى، وأن ما عنده أعظم من هذا. أَلاَ ترى أن الحق - تبارك وتعالى - حينما يخبرنا عن الجنة يقول:مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ.. } [محمد: 15] فيجعلها مثلاً لأن ألفاظ اللغة لا تؤدي المعاني التي في الجنة ولا تَصِفها. لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر " فكل ما جاء فيها ليس وصفاً لها إنما مجرد مثَل لها، ومع ذلك لما أعطانا المثل للجنة صَفّى المثل من شوائبه، فقال:فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى.. } [محمد: 15] ويكفي أن تعلم أن نعيم الجنة يأتي مناسباً لقدرة وإمكانيات المنِعم سبحانه. وقوله سبحانه { خَالِدِينَ فِيهَا.. } [العنكبوت: 58] لأن النعيم مهما كان واسعاً، ومهما تعددتْ ألوانه، فيُنغِّصه ويُؤرِّق صاحبه أن يزول إما بالموت وإما بالفقر، أما نعيم الجنة فدائم لا يزول ولا ينقطع، فلا يفوتك ولا تفوته، كما قال سبحانه:

السابقالتالي
2