الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ }

بعد أنْ تحدَّث الحق سبحانه عن الكفار والمكذَّبين أراد أنْ يُحدِث توازناً في السياق، فحدَّثنا هنا عن المؤمنين ليكون أنكَى للكافرين، حين تردف الحديث عنهم، وعما يقع لهم من العذاب بما سينال المؤمنين من النعيم، فتكون لهم حسرة شديدة، فلو لم يأخذ المؤمنون هذا النعيم لكانَ الأمر أهونَ عليهم. وقوله تعالى: { يٰعِبَادِيَ.. } [العنكبوت: 56] سبق أن قُلْنا: إن الخَلْق جميعاً عبيد لله، وعبيد الله قسمان: مؤمن وكافر، وكل منهما جعله الله مختاراً: المؤمن تنازل عن اختياره لاختيار ربه، وفضَّل مراده سبحانه على مراد نفسه، فصار عبداً في كل شيء حتى في الاختيار، فلما فعلوا ذلك استحقوا أن يكونوا عبيداً وعباداً لله. أما الكافر فتأبَّى على مراد ربه، واختار الكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة، ونسي أنه عبد لله مقهور في أشياء لا يستطيع أن يختار فيها، وكأن الله يقول له: أنت أيها الكافر تمردْتَ على ربك، وتأبَّيْتَ على منهجه في افعل و لا تفعل، واعتدْتَ التمرد على الله. فلماذا لا تتمرد عليه فيما يُجريه عليك من أقدار، لماذا لا تتأبَّى على المرض أو على الموت؟ إذن: فأنت في قبضة ربك لا تستطيع الانفلات منها. وعليه، فالمؤمن والكافر سواء في العبودية لله، لكن الفرْق في العبادية حيث جاء المؤمن مختاراً راضياً بمراد الله، وفَرْق بين عبد يُطيعك وأنت تجرُّه في سلسلة، وعبد يخدمك وهو طليق حُرٌّ. وهكذا المؤمن جاء إلى الإيمان بالله مختاراً مع إمكانية أنْ يكفر، وهذه هي العبودية والعبادية معاً. ومعنى { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ.. } [العنكبوت: 56] يخاطبهم ربهم هذا الخطاب وهم في الأرض وفي سعتها، ليلفت أنظارهم إلى أنهم سيُضطهدون ويُعذَّبون، وسيقع عليهم إيذاء وإيلام، فيقول لهم: إياكم أن تَصِرْفكم هذه القسوة، إياكم أنْ تتراجعوا عن دعوتكم، فإذا لم يناسبكم هذا المكان فاذهبوا إلى مكان آخر فأرضي واسعة فلا تُضيِّقوها على أنفسكم. لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأرض لله، والعباد كلهم لله، فإنْ أبصرتَ خيراً فاقِمْ حيث يكون ". فالذي نعاني منه الآن هو هذه الحدود وهذه القيود التي وضعناها في جغرافية أرض الله، فضيَّقنا على أنفسنا ما وسَّعه الله لنا، فأرْضُ الله الواسعة ليست فيها تأشيرات دخول ولا جوازات سفر ولا بلاك لست. لذلك قلنا مرة في الأمم المتحدة: إنكم إنْ سعيتُم لتطبيق مبدأ واحد من مبادئ القرآن فلن يوجد شر في الأرض، ألا وهو قوله تعالى:وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [الرحمن: 10]. والمعنى: الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام، فإن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر، وإلا فالذي يُتعِب الناس الآن أن توجد أرض بلا رجال، أو رجال بلا أرض، وها هي السودان مثلاً بجوارنا، فيها أجود الأراضي لا تجد مَنْ يزرعها، لماذا؟ للقيود التي وضعناها وضيَّقنا بها على أنفسنا.

السابقالتالي
2