الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

والاستفهام هنا للتعجُّب وللإنكار، يعني: كيف لا يكفيهم القرآن ولا يقنعهم وهو أعظم الآيات، وقد أعجزهم أنْ يأتوا ولو بآية من آياته، وجاءهم بالكثير من العِبر والعجائب؟ إذن: هم يريدون أنْ يتمحّكوا، وألا يؤمنوا، وإلا لو أنهم طلاب حَقٍّ باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة ليؤمنوا به. وقوله تعالى: { يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ.. } [العنكبوت: 51] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي بعدة آيات، وقد يطول إلى رُبْعين أو ثلاثة أرباع، فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل عليه على صحابته ليكتبوه، يتلوه كما أُنزِل عليه، فيكتبه الكتبة، ويحفظه مَنْ يحفظه منهم، وكانوا أمة رواية وأمة حفظ. ثم يأتي وقت الصلاة فيصلي بهم رسول الله بما نزل عليه من الآيات، يُعيدها كما أملاها، وهذه هبة ربانية منحها لرسوله صلى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله:سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [الأعلى: 6]. وإلا، فَلَك أن تتحدى أكثر الناس حِفْظاً أنْ يُعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة مثلاً، ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الأولى. ثم يقول سبحانه: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ.. } [العنكبوت: 51] لكن لمن { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 51] لأن القرآن لا يثمر إلا فيمن يُحسِن استقباله ويؤمن به، أما غير المؤمنين فهو في آذانهم وَقْر وهو عليهم عمى، لا يفقهونه ولا يتدبرونه لأنهم يستقبلونه لا بصفاء نفس، وإنما ببُغْض وكراهية استقبال، فلا ينالون نوره ولا بركته ولا هدايته. لذلك يقول تعالى في الذين يُحسِنون استقبال كلام الله:قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ.. } [فصلت: 44]. أما الذين يجحدونه ولا يُحسنون استقباله، فيقول عنهم:وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى.. } [فصلت: 44]. وسبق أنْ قلنا: إن الفعل واحد، لكن المستقبل مختلف، ومثَّلْنا لذلك بمن ينفخ في يده ليُدفئها في البرد، ومَنْ ينفخ في الشاي ليُبرده، وأنت أيضاً تنفخ في الشمعة لتطفئها، وتنفخ في النار لتشعلها. وفي موضع آخر يقول تعالى:وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ.. } [الإسراء: 82]، ففرْق بين الشفاء والرحمة، الشفاء يعني: أنه كانت هناك علة، فبرأت، لكن الرحمة ألاَّ تعاودك العلة، ولا يأتيك الداء مرة أخرى، فالقرآن نزل ليعالج الداءات النفسية، يعالجها بالقراءة ويُحصِّنك ضدها فلا تصيبك، وإنْ وقعتَ في شيء من هذه الداءات فاقرأ ما جاء فيها من القرآن فإنها تبرأ بإذن الله، إذن: الشفاء يعالج الداء إنْ وقع في غفلة من سلوك النفس. ولو طبقنا قضايا القرآن في نفوسنا لنالتنا هذه الرحمة، فالإنسان بدن وقيم ومعان وأخلاق، هذه المعاني في الإنسان يسمونها النفسيات، فقد يكون سليم البنية والجسم لكنه سقيم النفس لذلك نجد بين تخصصات الطب الطب النفسي، وكل مريض لا يجدون لمرضه سبباً عضوياً يُشخِّصونه على أنه مرض نفسي، وحين تسأل الطبيب النفسي تجد أن كل ما عنده عقاقير تهدىء المريض أو تهده فينام حتى لا يفكر في شيء، وهل هذا هو العلاج؟ ولو تأملنا كتاب ربنا لوجدنا فيه العلاجيْن: العضوي والنفسي، فسلامة الجسم في أن الله تعالى أحلّ لك أشياء، وحرَّم عليك أشياء، وما عليك إلا أنْ تستقيم على منهج ربك فتسلم من داءات الجسد، فإنْ كنت من هؤلاء الذين يحبون الأكل من الحلال لكنهم يبالغون فيه إلى حَدِّ التًّخمة، فاقرأ في القرآن:

السابقالتالي
2