الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ }

قوله: { تَتْلُواْ.. } [العنكبوت: 48] أي: تقرأ، واختار تتلو لأنك لا تقرأ إلا ما سمعت، فكأن قراءتك لما سمعت تجعل قولك تالياً لما سمعتَ، نقول: يتلوه يعني: يأتي بعده { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ.. } [العنكبوت: 48] يعني: الكتابة. وفَرْق بين أنْ تقرأ، وبين أنْ تكتب، فقد تقرأ لأنك تحفظ، وتحفظ نتيجة السماع، كإخواننا الذين ابتلاهم الله بكفِّ نظرهم ويقرأون، إنما يقرأون ما سمعوه لأن السمع كما قلنا أول حاسة تؤدي مهمتها في الإنسان، فمن الممكن أن تحفظ ما سمعت، أما أن تكتبه فهذا شيء آخر. والكلام هنا لون من ألوان الجدل والإقناع لكفار قريش الذين يُكذِّبون رسول الله، ولوْن من ألوان التسلية لرسول الله، كأنه يقول سبحانه لرسوله: اطمئن. فتكذيب هؤلاء لك افتراء عليك لأنك ما تلوْتَ قبله كتاباً ولا كتبته بيمينك، وهم يعرفون سيرتك فيهم. كما قال سبحانه في موضع آخر:فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16]. أربعون سنة قضاها رسول الله بين قومه قبل البعثة، ما جرَّبوا عليه قراءة ولا كتابة ولا خطبة، ولا نمَّق قصيدة، فكيف تُكذِّبونه الآن؟ فإنْ قالوا: كانت عبقرية عند محمد أجَّلها حتى سِنِّ الأربعين. نقول: العبقرية عادة مَا تأتي في أواخر العقد الثاني من العمر في السابعة عشرة، أو الثامنة عشرة، ومَنْ ضمن لمحمد البقاء حتى سِنِّ الأربعين، وهو يرى مصارع أهله، جده وأبيه وأمه؟ لو كان عندك شيء من القراءة أو الكتابة لكان لهم عذر، ولكان في الأمر شبهة تدعو إلى الارتياب في أمرك، كما قالوا:وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الفرقان: 5]. وقالوا:إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.. } [النحل: 103] فردَّ القرآن عليهملِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [النحل: 103]. وقالوا: ساحر. وقالوا: شاعر. وقالوا: مجنون. وكلها افتراءات وأباطيل واهية يسهل الردُّ عليها: فإنْ كان ساحراً، فلماذا لم يسحركم أنتم أيضاً وتنتهي المسألة؟ وإنْ كان شاعراً فهل جرَّبتم عليه أنْ قال شعراً قبل بعثته؟ وإنْ قُلْتم مجنون، فالجنون فَقْد العقل، بحيث لا يستطيع الإنسان أنْ يختار بين البدائل، فهل جرَّبتم على محمد شيئاً من ذلك؟ وكيف يكون المجنون على خُلُق عظيم بشهادتكم أنتم أنه الصادق الأمين، فعنده انضباط في الملَكات وفي التصرفات، فكيف تتهمونه بالجنون؟ وكلمة { مِن قَبْلِهِ.. } [العنكبوت: 48] لها عجائب في كتاب الله منها هذه الآية: { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ.. } [العنكبوت: 48] فيقول بعض العارفين من قبله: أي من قبل نزول القرآن عليك، وهذا القول { مِن قَبْلِهِ.. } [العنكبوت: 48] يدل على أنه من الجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم كيف يقرأ وكيف يكتب بعد نزول القرآن عليه، حتى لا يكون في أمته من هو أحسن حالاً منه في أي شيء، أو في خصلة من خصال الخير.

السابقالتالي
2 3