الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ }

أراد الحق سبحانه أن يبرهن لنا على طلاقة قدرته تعالى، فقال: { خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ.. } [العنكبوت: 44] والخَلْق: إيجاد المعدوم، لكن الغرض مخصوص، ولمهمة يؤديها، فإنْ خلقت شيئاً هكذا كما اتفق دون هدف منه فلا يُعَد خلقاً. ومسألة الخَلْق هذه هي الوحيدة أقرَّ الكفار بها لله تعالى، فلما سألهم:وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ.. } [لقمان: 25] فلماذا أقرُّوا بهذه بالذات؟ ولماذا ألجمتهم؟ هذا ليس عجيباً منهم لأننا نشاهد كل مَنْ يأتي بجديد في الكون حريصاً على أنْ ينسبه لنفسه، وعلى أنْ يُبيِّن للناس مجهوداته وخبراته، وأنه اخترع كذا أو اكتشف كذا، كالذي اكتشف الكهرباء أو اخترع التليفون أو التليفزيون. ما زِلْنا حتى الآن نذكر أن قانون الطفو لأرشميدس، وقانون الجاذبية لنيوتن، والناس تسجل الآن براءات الاختراع حتى لا يسرق أحد مجهودات أحد، ولتحفظ لأصحاب التفوق العقلي والعبقري ثمرة عبقريتهم. وكذلك كان العرب قديماً يذكرون لصاحب الفضل فَضلْه، حتى إنهم يقولون: فلان أول مَنْ قال مثلاً: أما بعد. وفلان أول من فعل كذا. إذن: فنحن نعرف الأوائل في كل المجالات، وننسب كل صنعة وكل اختراع واكتشاف إلى صاحبه، بل ونُخلِّد ذكراه، ونقيم له تمثالاً.. إلخ. إذن: فما بالك بالخالق الأعظم سبحانه الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما ومَنْ فيهما، أليس من حقه أن يعلن عن نفسه؟ أليس من حقه على عباده أن يعترفوا له بالخَلْق؟ خاصة وأن خَلْق السماوات والأرض لم يدَّعه أحد لنفسه، ولم ينازع الحق فيه منازع، ثم جاءنا رسول من عند الله تعالى يخبرنا بهذه الحقيقة، فلم يوجد معارض لها، والقضية تثبُت لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض. وقد مثَّلنا لهذه المسألة - ولله المثل الأعلى - بجماعة جلسوا في مجلس، فلما انفضَّ جمعهم وجد صاحب البيت محفظة نقود لواحد منهم، فسألهم: لمن هذه المحفظة؟ فقالوا جميعاً: ليست لي إلا واحد منهم قال: هي محفظتي، فهل يشكُّ صاحب البيت أنها لمن ادَّعاها؟ ولك أنْ تسأل: ما دام الحق سألهممَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ.. } [لقمان: 25] فقالوا الله فلماذا يذكر الله هذه القضية؟ قالوا: الحق - تبارك وتعالى - لا يريد بهذه الآية أن يخبرنا أنه خالق السماوات والأرض، إنما يريد أن يخبرنا أن خَلْق السماوات والأرض بالحق، والحق: الشيء الثابت الذي لا يتغير مع الحكمة المترتبة على كل شيء في الوجود، فإذا نظرنا إلى خَلْق السماوات والأرض لوجدناه ثابتاً لم يتغير شيء فيه. لذلك يقول سبحانه:لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ.. } [غافر: 57]. فالسماوات والأرض خَلْق هائل عظيم، بحيث لو قارنته بخَلْق الإنسان لكان خَلْق الإنسان أهون.

السابقالتالي
2