الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ }

ما زالت الآيات تُحدِّثنا عن مواكب الرسالات، لكنها تتكلم عن المكذِّبين عاداً وثمود، وهنا { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ.. } [العنكبوت: 39] والدليل على قوله سبحانه في الآية السابقةوَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } [العنكبوت: 38] قوله تعالى هنا { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ } [العنكبوت: 39] أي: بالأمور الواضحة التي لا تدع مجالاً للشك في صدْق الحق سبحانه، وفي صِدْق الرسول في البلاغ عن الله. { فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ.. } [العنكبوت: 39] استكبر: يعني افتعل الكِبْر، فلم يقُلْ تكبَّر، إنما استكبر كأنه في ذاته ما كان ينبغي له أنْ يستكبر لأن الذي يتكبّر يتكبَّر بشيء ذاتي فيه، إنما بشيء موهوب؟ لأنه قد يسلب منه، فكيف يتكبَّر به؟ لذلك نقول للمتكبِّر أنه غفلت عينه عن مَرأْى ربه في آثار خَلْقه، فلو كان ربه في باله لاستحى أنْ يتكبّر. فالإنسان لو أنه يلحظ كبرياء ربه لَصَغُر في نفسه، ولاستحى أن يتكبَّر، كما أن المتكبر بقوته وعافيته غبي لأنه لم ينظر في حال الضعيف الذي يتعالى عليه، فلربما يفوقه في شيء آخر، أو عنده عبقرية في أمر أهم من الفتوة والقوة، ثم ألم ينظر هذا الفتوة أنها مسألة عَرضية، انتقلتْ إليه من غيره، وسوف تنتقل منه إلى غيره. إذن: فقارون وفرعون وهامان لما جاءهم موسى بآيات الله الواضحات استكبروا في الأرض، وأنفوا أن يتبعوا لا بطبيعتهم وطبيعة وجود ذلك فيهم، إنما افتعالاً بغير حق { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } [العنكبوت: 39] فنفى عنهم أن يكونوا سابقين، كما قال سبحانه:وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [الواقعة: 60]. والسبق لا يُمدح ولا يُذم في ذاته، لكن بنتيجته: إلى أيِّ شيء سبق؟ كما نسمع الآن يقولون: فلان رجعي، والرجعية لا تُذَم في ذاتها، وربما كان الإنسان مُسْرفاً على نفسه، ثم رجع إلى منهج ربه، فنِعمْ هذه الرجعية، فالسبق لا يُذَم لذاته، واقرأ إنْ شئت قوله تعالى:وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ.. } [آل عمران: 133] أي: سابقوا. والمعنى هنا { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } [العنكبوت: 39] أن هناك مضمارَ سباق، فمن سبق قالوا: أحرز قَصَب السبق، فإنْ كان مضمار السباق هذا في الآخرة أيسبقنا أحد ليفلتَ من أخْذنا له؟ إنهم لن يسبقونا، ولن يُفلِتوا من قبضتنا، ولن يُعجِزوا قدرتنا على إدراكهم. ويقول الحق سبحانه: { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا... }.