الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ }

قوله تعالى: { وَإِن تُكَذِّبُواْ.. } [العنكبوت: 18] أي: ما قلنا لكم وما جاءكم به رسولنا لأن تصديقه سيُدخلكم مدخل التكليف، ويحملكم مشقة المنهج، وسيُضيِّق عليكم منطقة الاختيار، والحق سبحانه قد شرَّفك حين أعطاك حرية الاختيار، في حين أن الكون كله لا اختيارَ له لأنه تنازل عن اختياره لاختيار ربه. كما قال سبحانه:إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]. فالكون كله مسخر يؤدي مهمته، كما يقول سبحانه:وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.. } [الإسراء: 44]. وقال سبحانه:أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ.. } [الحج: 18] فالقاعدة عامة، لا استثناء فيها، إلا عند الإنسان، فمنهم الطائع ومنهم العاصي. فالمعنى: { وَإِن تُكَذِّبُواْ.. } [العنكبوت: 18] فلستم بدعاً في التكذيب { فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ.. } [العنكبوت: 18] لكن يجب عليكم أن تتنبهوا إلى ما صنع بالأمم المكذِّبة، وكيف كانت عاقبتهم، فاحذروا أنْ يُصيبكم ما أصابهم، هذه هي المسألة التي ينبغي عليكم التنبُّه لها. وهنا وقف بعض المتمحكين يقول: كيف يقول القرآن في خطاب قوم إبراهيم { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ.. } [العنكبوت: 18] مع أنه لم يسبقهم إلا أمة واحدة هي أمة نوح عليه السلام؟ يظنون أنهم وجدوا مأخذاً على القرآن. ونقول: نعم، كانت أمة نوح هي أمة الرسالة المقصودة بالإيمان، لكن جاء قبلها آدم وشيث وإدريس، وكانوا جميعاً في أمم سابقة على إبراهيم، أو نقول: لأن مدة بقاء نوح في قومه طالت حتى أخذت ألف سنة من عمر الزمان، وهذه الفترة تشمل قُرَابة العشرة أجيال، والجيل - كما قالوا - مائة سنة، كل منها أمة بذاتها. ثم يقول تعالى: { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } [العنكبوت: 18] فمهمته مجرد البلاغ. يؤمن به مَنْ يؤمن، ويكفر مَنْ يكفر، الرسول لن نعطيه مكافأة أو عمولة على كل مَنْ يؤمن به، فإياكم أنْ تظنوا أنكم بكفركم تُقلِّلون من مكافأة النبي - خاصة وقد كانوا كارهين له - فالمعنى: عليَّ البلاغ فحسب، وقد بلَّغت فسآخذ جزائي وأجري من ربي، فأنتم لا تكيدونني بكفركم، بل تكيدون أنفسكم. لذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحزن أشد الحزن، ويألم إنْ تفلَّت من يده واحد من أمته فكفر، حتى خاطبه ربه:لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ.. } [البقرة: 272]. وخاطبه بقوله:لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3]. وحين نزل عليه صلى الله عليه وسلم:وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 1-5] انتهز النبي هذه الفرصة ودعا ربه: إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مُحبٌّ لأمته، حريص عليهم، رؤوف رحيم بهم:لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128]. ووصف الحق سبحانه البلاغ بأنه مبين، أي: واضح ظاهر لأن من البلاغ ما يكون مجرد عرض للمسألة دون تأكيد وإظهار للحجة التي تؤيد البلاغ. ثم يقول الحق سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ... }.