الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }

يقول العلماء: إن نوحاً - عليه السلام - هو أول رسل الله إلى البشر، أما مَنْ سبقه مثل آدم وإدريس عليهما السلام، فكانوا أنبياء أوحى الله إليهم بشرع يعملون به، فيكونون نموذجاً إيمانياً، وقدوة سلوك طيب، يُقلِّدهم مَنْ رآهم، لكن لا يُعَدُّ كافراً مَنْ لم يقتَدِ بهم، أما إن اقتدى بهم ثم نكث عن سبيلهم فهو كافر. لذلك نُفرِّق بين النبي والرسول، بأن النبي أُوحي إليه بشرع يعمل به ولم يُؤْمر بتبليغه، أما الرسول فقد أُوحي إليه بشرع وأُمرِ بتبليغه فكلٌّ منهما مرسل، لذلك يقول تعالى:وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ.. } [الحج: 52]. إذن: فالنبي أيضاً مُرسَل، لكنه مُرسَل لذاته. لكن لماذا كان هذا قبل نوح بالذات؟ قالوا: لأن الرقعة الإنسانية كانت ضيقة قبل نوح، وكان الناس حديثي عهد، لم تنتشر بينهم الانحرافات، فلما اتسعت الرقعة، وتداخلت أمور الحياة احتاجت الخليقة لأنْ يرسل الله إليهم الرسل. والحق سبحانه يأتي بهذه اللقطة الموجزة من قصة نوح - عليه السلام - مع أن له سورة مفردة، وله لقطات كثيرة منثورة في الكتاب العزيز، لكن هذه اللقطة تأتي لنا بالبداية والنهاية فقط وكأنها برقية تلغرافية في مسألة نوح: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ.. } [العنكبوت: 14]. إذن: الرسول جاء من القوم، وهذا يعني أنهم يعرفونه قبل أن يكون رسولاً، ويُجرِّبون سلوكه وحركته في الحياة، ويعرفون خُلقه، ويعرفون كل تصرفاته، فليس الرسول بعيداً عنهم أو مجهولاً لهم. لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جهر بالدعوة آمن به الذين يعرفونه عن قُرْب دون أنْ يسألوه عن معجزة تؤيده، بل بمجرد أنْ قال أنا رسول الله آمنوا به وصدَّقوه واتبعوه. فسيدنا أبو بكر، هل سمع من رسول الله قبل أن يؤمن به؟ لا، إنما بمجرد أن قالوا له: إن صاحبك تنبأ قال: آمنت به، لماذا؟ لأنه يعرف له سوابق يبني عليها إيمانه بصاحبه، فما كان محمد ليكون صاحب خُلق عظيم مع الناس، ثم يكذب على الله. إذن: ففي كَوْن الرسول من قومه إيناسٌ للخَلْق لذلك لما قالوا: لا نؤمن إلا إذا جاءنا الرسول ملكاً ردَّ عليهم: أأنتم ملائكة حتى ينزل عليكم مَلَك؟قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [الإسراء: 95]. ولو فُرض أننا أرسلناه مَلَكاً أهم يروْن الملائكة؟ لا يروْنَها، فكيف إذن يُبلِّغ الملَك الناس؟ لا بُدَّ أنْ يأتيهم في صورة بشر، ولو أتاهم في صورة بشر لقالوا نريد ملَكاً. وقوله عز وجل: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً.. } [العنكبوت: 14] هذا العدد من الممكن أن يؤدى لمعانٍ كثيرة، فلم يقُلْ: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً.

السابقالتالي
2 3 4