الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }

الحق - سبحانه وتعالى - يريد أنْ يُعلِّمنا أن الذي يريد ديناً حقاً لا بُدَّ أن ينظر إلى دين يأتي بعده بمعجزة، لأنه إذا كان قد آمن حين جاء عيسى بأنه جاء بعد موسى - عليه السلام - فلا يستبعد عقلاً أنْ يجيء بعد عيسى رسول، فوجب عليه أنْ يبحث في الدين الجديد، وأنْ ينظر أدلة تبرر له إيمانه بهذا الدين. هذا إذا كان الدين الأول لم يتبدَّل، فإذا كان الدين الأول قد تبدَّل، فالمسألة واضحة لأن التبديل يُحدث فجوة عند مَنْ يريد ديناًٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ.. } [الأعراف: 157]. آمنوا به لأنهم وجدوا نَعْته، ووجدوا العقائد التي لا تتغير موجودة في كتابه، وهو أُميٌّ لم يعرف شيئاً من هذا، فأخذوا من أميته دليلاً على صِدْقه. فقوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ.. } [القصص: 54] أي: أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون لله، والذين سبق وصفهم { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ.. } [القصص: 54] أجر لإيمانهم برسلهم، وأجر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. لذلك جاء في الحديث الشريف: " ثلاثة يُؤْتَوْن أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه مثل آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وأدى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَة - جارية - فأدَّبها فأحسن تأديبها، فأعتقها بعد ذلك، ثم تزوجها ". وهؤلاء الذين آمنوا برسلهم، ثم آمنوا برسول الله استحقوا هذه المنزلة، ونالوا هذين الأجرين لأنهم تعرضوا للإيذاء ممَّنْ لم يؤمن في الإيمان الأول، ثم تعرَّضوا للإيذاء في الإيمان الثاني، فصبروا على الإيذاءين، وهذه هي حيثية { يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ... } [القصص: 54]. وكما أن الله تعالى يُؤتِي أهلَ الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين، كذلك يُؤتي بعض المسلمين أجرهم مرتين، ومنهم - كما بيَّن سيدنا رسول الله: " عبد مملوك أدى حق الله، وأدَّى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَةٌ... ". ولا يُحرم هذا الأجر الدين الذي باشر الإسلام، وأتى قبله، وهو المسيحية، فلهم ذلك أيضاً لذلك يقول تعالى:لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.. } [الحديد: 25] وأهم هذه المنافعوَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ.. } [الحديد: 25] وذكر الحديد، لأن منه سيصنع سلاح الحرب. إذن: أنزل الله القرآن لمهمة، وأنزل الحديد لمهمة أخرى لذلك يقول الشاعر:
فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْيُ أَوْ حَدٌّ مُرْهَف   يُقيم ظباه أَخْدعَيْ كلِّ مائلٍ
فَهَذا دَوَاءُ الدَّاء من كُلِّ عَاقِلٍ   وذَاك دَوَاءُ الدَّاءِ من كُلِّ جاهلٍ
ولي أنا شخصياً ذكريات ومواقف مع هذه الآية { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ.

السابقالتالي
2