الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }

معنا - إذن - في هذه القصة أحكام ثلاثةلاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ.. } [القصص: 23] أعطَتْ حكماً ووَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [القصص: 23] أعطتْ حُكْماً و { فَسَقَىٰ لَهُمَا.. } [القصص: 24] أعطت حكماً ثالثاً. وهذه الأحكام الثلاثة تُنظم للمجتمع المسلم مسألة عمل المرأة، وما يجب علينا حينما تُضطر المرأة للعمل، فمن الحكم الأول نعلم أن سَقْي الأنعام من عمل الرجال، ومن الحكم الثاني نعلم أن المرأة لا تخرج للعمل إلا للضرورة، ولا تؤدي مهمة الرجال إلا إذا عجز الرجل عن أداء هذه المهمةوَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [القصص: 23]. أما الحكم الثالث فيعلم المجتمع المسلم أو حتى الإنساني إذا رأى المراة قد خرجت للعمل فلابد أنه ليس لها رجل يقوم بهذه المهمة، فعليه أن يساعدها وأنْ يُيسِّر لها مهمتها. وأذكر أنني حينما سافرت إلى السعودية سنة 1950 ركبتُ مع أحد الزملاء سيارته، وفي الطريق رأيته نزل من سيارته، وذهب إلى أحد المنازل، وكان أمامه طاولة من الخشب مُغطَّاة بقطعة من القماش، فأخذها ووضعها في السيارة، ثم سِرْنا فسألتُه عما يفعل، فقال: من عاداتنا إذا رأيتُ مثل هذه الطاولة على باب البيت، فهي تعني أن صاحب البيت غير موجود، وأن ربة البيت قد أعدَّتْ العجين، وتريد مَنْ يخبزه فإذا مَرَّ أحدنا أخذه فخبزه، ثم أعاد الطاولة إلى مكانها. وفي قوله تعالى:لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ.. } [القصص: 23] إشارة إلى أن المرأة إذا اضطرتْ للخروج للعمل، وتوفرْت لها هذه الضرورة عليها أنْ تأخذَ الضرورة بقدرها، فلا تختلط بالرجال، وأنْ تعزل نفسها عن مزاحمتهم والاحتكاك بهم، وليس معنى أن الضرورة أخرجتْ المرأة لتقوم بعمل الرجال أنها أصبحتْ مثلهم، فتبيح لنفسها الاختلاط بهم. وقوله تعالى: { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 24] فكان موسى - عليه السلام - طوال رحلته إلى مَدْين مسافراً بلا زاد حتى أجهده الجوع، وأصابه الهزال حتى صار جِلْداً على عظم، وأكل من بقل الأرض، وبعد أن سقى للمرأتين تولَّى إلى ظلِّ شجرة ليستريح، وعندها لَهَج بهذا الدعاء { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 24]. كأن الحق - سبحانه وتعالى - يريد من الضعيف أنْ يتجه إلى المعونة، وحين يتجه إليها فلن يفعل هو، إنما سيفعل الله له لذلك نلحظ أن موسى في ندائه قال { رَبِّ.. } [القصص: 24] واختار صفة الربوبية، ولم يقُلْ يا الله لأن الألوهية تقتضي معبوداً، له أوامر ونواهٍ، أمّا الرب فهو المتولِّي للتربية والرعاية، فقال: يا رب أنا عبدك، وقد جئتَ بي إلى هذا الكون، وأنا جائع أريد أن آكل.

السابقالتالي
2