الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

مسألة الخَلْق هذه لا يستطيعون إنكارها، وقد سألهم الله:وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ.. } [الزخرف: 87]. وفي موضع آخر:وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ.. } [لقمان: 25]. لأنهم لا يملَكون إنكارها، وإنْ أنكروها فالردّ جاهز: على مَنْ خلق أولاً أن يُرينا شيئاً جديداً من خَلْقه. ومعنى { يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ } [النمل: 64] يعني: الخلْق الأول من العدم { ثُمَّ يُعيدُهُ } [النمل: 64] لأن الذي خلقنا من عدم كتب علينا الموت، وأخبرنا بالغيب أننا سنُبعث يوم القيامة، وسيعاد هذا الخَلْق مرة أخرى، فالذين لم يملكوا إنكار الخلق أنكروا البعث، فقالوا كما حكى القرآن:قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 1-3]. فاستبعدوا البعث بعد الموت، وتحلّل الأجساد في التراب. وهذه القضية خَاضَ فيها الفلاسفة بكلام طويل، وللردِّ عليهم نقول: أنتم في القوانين الوضعية تجعلون الثواب لمن أحسن، والعقوبة لمن قصَّر، وتُجرِّمون بعض الأعمال بعينها، وتضعون لها العقوبة المناسبة، وفي القانون: لا عقوبةَ إلا بتجريم، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ، ولا نصَّ إلا بإعلام. ولم نَرَ في القانون الوضعي جريمة تُرِكت بلا عقوبة، فإذا كان البشر يضعون لمجتمعاتهم هذه القوانين التي تنظم حياتهم، أليس رب البشر أوْلَى بقانون الثواب والعقاب؟ وإذا كنتَ لا ترضي لنفسك أنْ يفلتَ المجرم من العقاب، فكيف ترضى ذلك لله؟ ثم ألا تعلم أن كثيراً من المجرمين يرتكبون جرائمهم في غفلة من القانون، أو يُعمُّون على العدالة ويهربون من العقاب، ويُفلِتون من القوانين الوضعية في الدنيا، ولو تركنا هؤلاء بلا عقاب أيضاً في الآخرة فهم إذن الفائزون، وسوف نشجع بذلك كل منحرف خارج عن القانون. أما إنْ علم أن له رباً قيوماً عليه، وإنْ عمَّى على قضاء الأرض فلن يُعمِّي على قضاء السماء، وإنْ أفلتَ من عقاب الدنيا فلن يُفلِتَ أبداً من عقاب الآخرة - إنْ علم ذلك استقام. لكن، ما وجه استبعادهم للبعثذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3]. يقولون: هَبْ إن إنساناً مات ودُفِن وتحلّل جسده إلى عناصر امتصتها الأرض، ثم غُرِسَت شجرة في هذا المكان وتغذْت على هذه العناصر، وأكل من ثمارها عدة أشخاص، وانتقلت جزئيات الميت إلى الثمار ثم إلى من أكل منها، فحين يُبعث الخَلْق يوم القيامة فلأيِّهما تكون هذه الجزئيات: للأول أم للثاني؟ إذا بعثتها للأول كانت نقصاً في الثاني، وإنْ بعثتها للثاني كانت نقصاً في الأول. وهذا الكلام منهم على سبيل أن الشخص مادة فقط، لكن التشخيصات مادة ومعنى. وهَبْ أن شخصاً بديناً يزن مثلاً مائة كيلو أصابه مرض أهزله حتى قَلَّ وزنه إلى خمسين كيلو مثلاً، ثم عُولج وتحسنت صحته حتى عاد كحالته الأولى.

السابقالتالي
2 3