الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

لما تكلم الحق سبحانه في الآية السابقة عن السماوات والأرض أتى بأشياء مشتركة بينهما، فالسماء ينزل منها الماء، والأرض تستقبل الماء، وتنبت لنا الحدائق ذات البهجة. أما في هذه الآية، فالكلام عن الأرض، لذلك ذكر لنا مسائل من خصوصيات الأرض، { أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً.. } [النمل: 61] معنى: قراراً أي استقراراً، حيث خلقها سبحانه على هيئة مريحة تصلح لأنْ يستقرَّ عليها الإنسان. { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } [النمل: 61] الماء ينزل من السماء وينتفع به مَنْ سقط عليه مباشرة، أما ما ينزل على الجبال فيجتمع في الوديان وتُصنع له السدود لينتفع الناس به عند القحط، ومن ماء المطر ما ينساب في مَجَارٍ تُسمَّى الأنهار. وتستطيع أنْ تُفرِّق بين النهر والقناة الصناعية، فالنهر ينساب الماء فيه من أعالي الجبال، ومن أماكن متفرقة تتتبع المنخفضات والسهل من الأرض الذي يستطيع الماء أنْ يشقَّ مجراه فيه فتراه ملتوياً متعرجاً، يدور حول الجبال أو الصخور ليشقَّ مجراه. أما القناة الصناعية، فتراها على هيئة الاستقامة، إلا إذا اعترض طريق حفرها مثلاً أحد أصحاب النفوذ، فيحملهم على تغيير المسار والانحراف به ليتفادى المرور بأرضه. وتستطيع أنْ تلاحظ هذه الظاهرة إذا تبولْتَ في أرض رملية ونظرتَ إلى مجرى البول، فتراه يسير متعرجاً حسب طبيعة الأرض التي يمرُّ بها. { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } [النمل: 61] الرواسي: هي الجبال الثابتة الراسية، وفي موضع آخر بيَّن سبحانه الحكمة من هذه الجبال فقال:وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل: 15]. فالحكمة من خَلْق الجبال تثبيت الأرض حتى لا تضطرب، ولو أنها خُلِقَتْ على هيئة الثبات والاستقرار لما احتاجتْ إلى الجبال، إذن: هي مخلوقة على هيئة الحركة، ولا بُدَّ لها من مُثقِّلات. ولا تقتصر الحكمة من خَلْق الجبال على تثبيت الأرض، إنما لها مهمة أخرى في قوله تعالى:وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [النازعات: 32ـ33]. فكيف تكون الجبال متاعاً للإنسان وللحيوان؟ نعم، هي متاع لأنها مخزن مياه، حينما ينقطع المطر نجد المياه التي تساقطت على الجبال، إما في الأنهار، وإما في الشلالات، وخلف السدود بين الوديان، أو في العيون والآبار مما امتصته الأرض. وكما أن الجبال هي مخازن للمياه، هي أيضاً مخازن للخصوبة التي تمدُّ الأرض الزراعية عاماً بعد عام بقدر، بحيث تستمر خصوبة الأرض، وسبق أنْ تكلمنا عن ظاهرة التعرية التي تُفتِّت الطبقة العليا من الصخور، فتنزل إلى الوديان مع ماء المطر، وتختلط بالتربة الزراعية فتزيد من خصوبتها. ولولا صلابة الجبال وتماسك صخورها لتفتتتْ في عدة سنوات، ولفقدنا مصدر الخصوبة بعد ذلك، فهذه الظاهرة من علامات رحمة الله بخَلْقه لأنها تتناسب مع الزيادة السكانية بحيث كلما زاد السكان زادتْ الرقعة الخصبة الصالحة للزراعة.

السابقالتالي
2 3