الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } * { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ }

الضمير في { أَنَّهُمْ.. } [الشعراء: 225] يعود على الشعراء، والوادي: هو المنخفض بين جبلين، وكان محل السير ومحل نمو الأشجار والبساتين واستقرار المياه. { يَهِيمُونَ } [الشعراء: 25] نقول: فلان هَامَ على وجهه أي: سار على غير هدى، وبدون هدف أو مقصد، فالمعنى { فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } [الشعراء: 225] أن هذه حال الشعراء، لأنهم أهل كلام وخيال يمدحك أحدهم إنْ طمع في خيرك، فإنْ لم تُعطِه كال لك الذم وتفنَّن في النَّيل منك، فليس له وادٍ معين يسير فيه، أو مبدأ يلتزم به، كالهائم على وجهه في كل وَادٍ. فالمتنبي وهو من أعظم شعراء العصر العباسي ويُضرب به المثل في الحكمة والبلاغة، من أشهر شعره قوله:
فَالخَيْل والليْلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُني   والسَّيْفُ والرُّمح والقِرْطَاسُ والقَلَم
فلما كان في إحدى رحلاته خرج عليه قُطَّاع الطرق، فلما أراد أن يفرَّ قال له خادمه: ألست القائل:
فَالخَيْل والليْلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُني   والسَّيْفُ والرُّمح والقِرْطَاسُ والقَلَم
فاستحى أنْ يفرَّ، وثبت أمامهم حتى قتلوه، فقال قبل أنْ يموت: ما قتلني إلا هذا العبد، واشتهر هذا البيت في الأدب العربي بأنه البيت الذي قتل صاحبه. ولما جاء المتنبي إلى مصر مدح حاكمها كافور الإخشيدي طمعاً فيه، وكان كافور رجلاً أسود لذلك كَنَّوْه بأبي المِسْك، ولما مدحه المتنبي حالَ الرضا قال فيه:
أَبا كُلِّ طِيبٍ لاَ أَبَا المِسْك وَحْدَهُ   
وفي قصيدة أخرى يقول:
قَضَى اللهُ يَا كافُورُ أنَّكَ أَوَّلٌ   وليْسَ بقَاضٍ أنْ يُرَى لَكَ ثَانِ
فلما لم يُعْطه كافور طلبه، وساءتْ العلاقة بينهما، قال يهجوه:
أُريك الرضا لو أخْفت النفسُ خافيَا   ومَا أَنَا عَنْ نفسي وَلاَ عَنْكَ رَاضيا
أَمَيْناً وإخْلاَفَاً وغَدْراً وخِسَّةً وجُبْنا   أشخصاً لُحْتَ لي أَمْ مَخَازِيا
وتُعجِبُني رِجْلاَكَ في النَّعْلِ إنني   رأيتُكَ ذَا نَعْلٍ وإنْ كُنْتَ حَافِيا
ومِثْلُكَ يُؤتَى مِنْ بِلاَدٍ بَعِيدَة   لِيُضحِكَ ربَّاتِ الحِدَادِ البَوَاكِيَا
ولَوْلاَ فُضُول الناسِ جِئْتُك مَادِحاً   بما كنتَ في نَفْسِي به لَكَ هَاجِيَا
وقد يكون الشاعر بخيلاً، ولكنه يمدح الكرم والكريم، ويرفعه إلى عنان السماء:
متَّى تَأْتِهِ تَعشُو إلى ضَوْء نَارِه   تَجِدْ خَيْر نَارٍ عِنْدهَا خَيْرُ موقِدِ
والحطيئة مع ما عُرِف عنه من البخل يمدح أحدهم، ويصفه بالكرم النادر، لدرجة أنْ جعله يهِمُّ بذبح ولده لضيفه لأنه لم يجد ما يذبحه، وينظِم الحطيئة في الكرم هذه القصيدة أو القصة الشعرية التي تُعَدُّ من عيون الشعر العربي، ومع ذلك لم يأخذ مما يقول عبرةً، وظلَّ على إمساكه وبُخْله؟ يقول الحطيئة في وصف الكريم:
وَطَاوٍ ثَلاثاً عَاصِب البَطْنِ مُرْمل   بِبَيْداءَ لمَ يَعرِف بها ساكِن رَسْما
أخِي جَفْوةٍ فيه مِنَ الأُنْس وَحْشةٌ   يرى البُؤْسَ فِيها مِنْ شراسَتِه نُعْما
وأَفْردَ في شِعْبٍ عَجُوزاً إزَاءَهَا   ثلاثَة أشْباح تَخَالهوا بُهْما
حُفاةً عُراةً ما اغتذَوْا خُبْز مَلَّة   ولاَ عَرِفُوا للبُرِّ مُذْ خُلِقُوا طَعْما
رَأى شَبَحاً وَسْط الظَّلام فَرَاعَه   فلمَّا رأى ضَيْفا تَشمَّر واهْتَما
فَقالَ ابنُه لما رَآهُ بحيْرةٍ   أيَا أبَتِ اذْبحْني ويَسِّر لَهُ طُعْما
وَلاَ تعتذر بالعُدْم على الذي طَرا   يظنُّ لَنَا مالاً فَيُوسِعُنا ذَمّا
فَبَيْنَا هُما عَنَّتْ على البُعْد عَانَةٌ   قَدِ انتظمتْ من خَلْفِ مِسْحلها نَظْما
عِطَاشاً تريد الماءَ فانسابَ نحوها   عَلى أنَّه مِنْها إلى دَمِها أظْمَا
فَأمْهلَها حتَّى تروَّتْ عِطَاشُها   وأرسلَ فِيهَا مِنْ كِنَانتِه سَهْما
فخرَّتْ نَحْوصٌ ذَات جحش سَمينةً   قَد اكتنزتْ لَحْماً وقد طبّقَتْ شَحْما
فَيَا بشْرَهُ إذْ جرَّهَا نحو قَومِه   ويَا بشْرهُمْ لما رأوْا كَلْمها يَدْمَا
وَبَاتُوا كِراماً قَدْ قَضَوْا حَقَّ ضَيْفهِمْ   ومَا غَرمُوا غُرْماً وقَدْ غَنموا غُنْما
وَباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أباً   لِضَيْفهِمُ والأم مِنْ بِشرها أُمَّا

السابقالتالي
2