الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ }

نزل القرآن على أذن رسول الله، أم على قلبه؟ الأذن هي: أداة السَمع، لكن قال تعالى { عَلَىٰ قَلْبِكَ.. } [الشعراء: 194] لأن الأذن وسيلة عبور للقلب، لأنه محلُّ التلقِّي، وهو دينامو الحركة في جسم الإنسان، فبالدم الذي يضخُّه في أعضاء الجسم وأجهزته تتولَّد الطاقات والقدرة على الحركة وأداء الوظائف. لذلك نرى المريض مثلاً يأخذ الدواء عن طريق الفم، فيدور الدواء دروة الطعام، ويُمتصُّ ببطء، فإنْ أردتَ سرعة وصول الدواء للجسم تعطيه حقنة في العضل، لكن الأسرع من هذا أن تعطيه حقنة في الوريد، فتختلط بالدم مباشرة، وتُحدِث أثرها في الجسم بسرعة، فالدم هو وسيلة الحياة في النفس البشرية. إذن: قالقلب هو محلُّ الاعتبار والتأمل، وليس لسماع الأذن قيمة إذا لم يَع القلب ما تسمع الأذن لذلك يقول سبحانه في موضع آخر:قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ.. } [البقرة: 97]. فالمعنى: نزَّله على قلبك مباشرة، كأنه لم يمرّ بالأذن لأن الله الله تعالى اصطفى لذلك رسولاً صنعه على عينه، وأزال عنه العقبات البشرية التي تعوق هذه المباشرة، فكأن قلبه صلى الله عليه وسلم منتبهاً لتلقّي كلام الله لأنه مصنوع على عَيْن الله، أما الذين سمعوا كلام الله بآذانهم فلم يتجاوبوا معه، فكانت قلوبهم مغلقة قاسية فلم تفهم. والقلب محل التكاليف، ومُستقرّ العقائد، وإليه تنتهي مُحصِّلة وسائل الإدراك كلها، فالعيْن ترى، والأذن تسمع، والأنف يشمّ، والأيدي تلمس.. ثم يُعرض هذا كله على العقل ليختار بين البدائل، فإذا اختار العقل واطمأن إلى قضية ينقلها إلى القلب لتستقر به لذلك نسميها عقيدة يعني: أمْر عقد القلب عليه، فلم يَعُدْ يطفو إلى العقل ليبحث من جديد، لقد ترسَّخ في القلب، وأصبح عقيدة ثابتة. وفي آيات كثيرة نجد المعوّل والنظر إلى القلب، يقول تعالى:لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ.. } [الحج: 37]. وفي آية أخرى يُبيِّن أن التقوى محلُّها القلب:ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [الحج: 32]. وفي الشهادة يقول تعالى:وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.. } [البقرة: 283] من أن الشهادة باللسان، لا بالقلب. لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير: " ألا إن في الجسد مُضْغة، إذا صَلُحتْ صَلُحَ الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ". ويُحدِّثنا صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينزل عليه الوحي بآيات كثيرة بما يوازي رُبْعين أو ثلاثة أرباع مرة واحدة، فإذا ما سُرِّى عنه صلى الله عليه وسلم قال: اكتبوا، ثم يقرؤها عليهم مع وَضْع كل آية في مكانها من سورتها، ثم يقرؤها صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فتكون هي هي كما أملاها عليهم ذلك لأن القرآن باشر قلبه لا أذنه.

السابقالتالي
2