الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ }

كان من الممكن أن يكون الوحي من عند الله إلهاماً أو نَفْثاً في الرَّوْع لذلك قال تعالى بعدها: { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193] إذن: الأمر ليس نَفْثاً في رَوْع رسول الله بحكم ما، إنما يأتيه روح القُدُس وأمين الوحي يقول له: قال الله كذا وكذا. لذلك لم يثبت القرآن إلا بطريق الوحي، بواسطة جبريل عليه السلام، فيأتيه الملَك ولذلك علامات يعرفها ويحسّها، ويتفصّد جبينه منه عرقاً، ثم يُسرِّي عنه، وهذه كلها علامات حضور الملَك ومباشرته لرسول الله، هذا هو الوحي، أمَّا مجرد الإلهام أو النَّفْث في الرَّوْع فلا يثبت به وَحْي. لذلك كان جلساء رسول الله يعرفونه ساعة يأتيه الوحي، وكانوا يسمعون فوق رأسه صلى الله عليه وسلم كدويّ النحل أثناء نزول القرآن عليه، وكان الأمر يثقل على رسول الله، حتى إنه إنْ أسند فَخِذه على أحد الصحابة أثناء الوحي يشعر الصحابي بثقلها كأنها جبل، وإذا نزل الوحي ورسول الله على دابته يثقل عليها حتى تنخّ به، كما قال تعالى:إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 5]. ولم تهدأ مشقَّة الوحي على رسول الله إلا بعد أنْ فتَر عنه الوحي، وانقطع فترة حتى تشوَّق له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتظره، وبعدها نزل عليه قوله تعالى:أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح: 1-4]. ونزلت عليه:وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [الضحى: 1-4]. يعني: سيعاودك الوحي في سهولة ودون مشقَّة، ولن تتعب في تلقيه، كما كنتَ تعاني من قبل. وقوله تعالى { نَزَلَ.. } [الشعراء: 193] تفيد العلو، وأن القرآن نزل من أعلى من عند الله، ليس من وضع بشر يخطىء ويصيب ويجهل المصلحة، كما نرى في القوانين الوضعية التي تُعدَّل كل يوم، ولا تتناسب ومقتضيات التطور، والتي يظهر عُوَارها يوماً بعد يوم. ولأن القرآن نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبالَ الواثقِ فيه المطمئن به، لا نعانده، ولا نتكبر عليه لأنك تتكبر على مساوٍ لك، أمّا ما جاءك من أعلى فيلزمك الانقياد له، عن اقتناع. وفي الريف نسمعهم يقولون اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم لماذا؟ لأنه قُطِع بأمر الأعلى منك، بأمر الله لا بأمر واحد مثلك. وحين نتأمل قوله تعالى في التشريع لحكم من الأحكام:قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.. } [الأنعام: 151]. كلمة تعالوا تعني: اتركوا حضيض تشريع الأرض، وأَقْبلوا على رِفْعة تشريع السماء، فتعالوا أيْ: تعلَّوا وارتفعوا، لا تهبطوا إلى مستوى الأرض، وإلا تعبتُم وعضَّتكم الأحداث لأن الذي يُشرِّع لكم بشر أمثالكم وإنْ كانوا حتى حَسَنِي النية، فهم لا يعلمون حقائق الأمور، فإنْ أصابوا في شيء أخطأوا في أشياء، وسوف تُضطرون لتغيير هذه التشريعات وتعديلها.

السابقالتالي
2